
لطالما كان الوالد رحمه الله مميزا في معاملته لنا جميعا، حتى يخيل لكل منا أنه الأقرب إليه و صاحب الحظوة لديه.
من بين أميز المعاملات التي عشنا تفاصيلها؛ كان سلوكه المستقر والمميز مع الوالدة، أطال الله بقاءها، فلم أشاهده أبدا -وأظن إخوتي يشاركوني الملاحظة- يوجه إليها ما يمكن أن يحمل شحنة غضب أو لوم أو استهتار .
كيف لا وهو الذي تزوجها عن حب خارج نمط الزيجات التقليدية المدبرة حينها!…
أحبها وهي مطلقة؛ ولها بنت ستكون أول اختباراته وتجربته؛ أبًا ومربيًا في حياته الأسرية …
بمهر خمسين ألف أوقية كان الإيذان ببدء قصة أسرة كتب لها بفضل الله الاستمرار بحب واستقرار؛ استمرّت تجلياته حتى بعد رحيل الحبيب.
قيل لي إن الوالدة أشهرت حبها له عند أول خوف على حياته فترة حرب الصحراء، فكانت تطلب الدعاء لحفظه صراحة، الأمر الذي ستعتاده في تعبيرها عن مكانته في قلبها في السنوات التي كتب لها أن تعيش قصة ملهمة لتعايش التناقضات .
لقد كان الاختلاف في طبعهما وسلوكهما كبيرا، فالوالد سجيته الجدية وقلة الكلام، والوالدة تعشق المضاحك التي قد يدفعها البحث عنها بأن تدبر له المقالب، ومع ذلك كانا يجتمعان على حب الضيافة، والحرص على منفعة المسلمين، ولا أزكي على الله أحدا .
لقد عشنا في مدار حياتنا في ظلهما الوارف بعض فترات الانفصال أو العتاب؛ دون نسمع أو نرى من سلوكهما مايجعلنا كصغار نهتم أو نتأثر، ربما لعدم غياب أي منهما؛ أو لأنهما نجحا في عزلنا عن ما يمكن أن ينغص شعورنا بالاستقرار والأمان، بيد أن لي قصة معهما طريفة في هذا الشأن، قيل لي إن الوالد تأثر بها بينما كانت محل فكاهة عند الوالدة .
أذكر أن الحبيبة في فترة ما -أظنني كنت فيها في السنة الثالثة أو الرابعة ابتدائية- قامت بتحويل صالون صغير إلى غرفة نوم خاصة بها وحدها، وعندما سألتها عن سبب ذلك أخبرتني أن الوالد لديه بعض العمل يستدعي أن ينجزه بعيدا عن الناس في غرفة النوم المعهودة .
لم أفكر للحظة في صدق الأمر خاصة أنها كانت تبدو بخير -كالعادة لله الحمد- وإنما انصرف ذهني إلى سهولة اللعب بمحتويات خزانتها من ملابس واكسسوارات أثناء تقليد بعض الفنانات أمام المرآة، أو محاكات جلسات الوالدة مع بعض صديقاتها في البيت .
وبعد مدة قصيرة من انتقال الوالدة للغرفة الجديدة، أخبرتني إحدى صديقاتي في المدرسة بأن أبي قد طلق أمي! لم أفهم وقتها معنى الطلاق، لكنني استأت من الأمر وشعرت بسوئه؛ في قراءة ملامح الطفلة والطريقة التي أخبرتني بها، والتي تشبه في تعبيراتها، طريقة الشتم المعهودة عند الصغار .
رجعت حزينة مهمومة لا أكاد أحمل محفظتي من شدة الشرود، وكانت أمي تستقبلنا عادة بأهازيج ترحيبية لم أعرها اهتماما هذه المرة، وعندما حاولت أن تستفسرني عن الخطب؛ أخبرتها والدموع تنهمر من عيني؛ بأن صديقتي نعتتها بأنها مطلقة!.
انفجرت أمي بالضحك حتى توقفت عن البكاء من الحيرة، ثم مسحت دموعي وهي تقول : صاحبتك تكذب، وكما قلت لك والدك لديه عمل يستدعي أن يتفرغ له، وسترين حالما ينتهي منه؛ زيف ما أخبرتك به صديقتك.
وقعت كلماتها علي كالسحر حيث رجعت لطبيعتي دون أن أشك للحظة في صدق روايتها، وتمضي الأيام وإذا بأثاث الصالون يرجع لمكانه، ومتعلقات الوالدة تحمل إلى خزانتها في غرفة النوم الرئيسية حيث يوجد الوالد.
صرت أدور من حول الأثاث والحقائب؛ وكأني أتأكد من حقيقة اللحظة لأطير بعدها بحثا عن ما يمكن أن أجعله طبلا وأجلس في باحة المنزل؛ وأنا أضرب وسادة الجلد بأقصى قوتي وأغنّي ببهجة "لقد انتهى عمل أبي وعادت أمي وفلانة كاذبة " أقصد صديقتي في المدرسة .
قيل لي إن أبي تأثر كثيرا حتى سال دمعه، لكني لم ألاحظ أي تغيير في سلوكه، فهو ممن ينتظم سلوكه ويستمر لدرجة لا يبدو فيها غير نفس الشخص مهما تغيرت الظروف من حوله .
كان رحمه الله يحافظ على الذهاب بالوالدة كل مساء جمعة، وكان يبدو من هيأتها أنها نزهة خاصة لذلك لم نكن نطمع باصطحاب أحدنا معهم… كان منظرهم جميلا وهو يفتح عنها باب السيارة لتصعد وكانت تسبقه دائما لتفتح لنفسها عند النزول.
كان يثني أمامنا دوما على ما تقوم به مهما كان رأينا حوله، فكانت عندما تعد ما لا يعجبنا من طعام؛ يقوم هو بأكله حتى وإن لم يعجبه، وأذكر ذات مرة أنها ظلت تعد وجبة من الكسكس طوال ساعات من النهار؛ وعندما وضع الطبق بين أيدينا وذقنا اللقمة الأولى؛ تبادلت النظر مع أختي اللول التي بادرت بقول ما هاذا؟ إن طعمه لا يستساغ! ووجهت بعدها الكلام لأبي قائلة "أپپ انت ظگت ذا" فأجاب قائلا " ما ينفع يا منتي يقير شنواسو"! ما إن انتهى من إبداء رأيه حتى تشجعنا جميعا ورفعنا الصوت بالتذمر حتى سمعتنا الوالدة لتأتي وهي لازالت تحمل أحد الأقداح في يدها تستفسر عن الأمر .
تبادلت وأخواتي صيغ التذمر مستقوين بوجود الوالد ، فنظرت إلى الوالد وقالت له وأنت كيف وجدت الغداء؟! قال وهو يأكل "زين"، نظرنا له بدهشة المطعون في ظهره، ونحن نستمع لملامتها لنا لنصرخ بصوت واحد عند مغادرتها ونحن ننظر له "أپپ؟!" فضحك وقال لنا "انتوم لهي اتوحلون لمرة فترت فتعدال ذ اوكلوه ول خلوه عنكم ما گلتولها هي ش ".
لم يقرنا يوما على شكوى من أمنا، وكان دائما يبدي لنا أنها على حق، ومع ذلك كان يحرص على جبر خواطرنا بطرق أخرى.
الحقيقة أنها هي أيضا كانت تبدي اهتمامها الكبير برأيه؛ وما يحب؛ لدرجة أنها نجحت لسنوات طويلة في إخفاء استعمالها "للشم" لما تعلمه من معارضته لتعاطيه، وكان أول تصريح لها باستعماله قبل أربع سنوات ونصف من رحيله ذات يوم صيفي حار في شنقيط وهي حامل بآخر العنقود ؛ عندما نفد مخزونها من "الشم"، فما كان منها إلا أن أرسلت له رسالة فحواها أن يبعث لها بالشم أو ستنتقم من أولاده ههههه.
ولأنه كان ممن لا نرى له تذمرا ولا حدة في الرفض، كنا جميعا نتسابق لإرضائه ورضاه، ونحن نحاول قراءة سلوكه لمعرفة مايحب أكثر .
كان يوصينا بها خيرا دائما حتى في أيامه الأخيرة، ويقول لو أن أمي على قيد الحياة ما قصرت لأنال رضاها، فاسعدو ببرور أمكم مادامت معكم… يمكن تعويض كل شيء إلا خسارة الأمهات…
كنا نستغرب أحيانا من إلحاحه على العناية بها، ونتصور أن الوالدة قد شكتنا إليه؛ليتبين لاحقا أن إصراره على تكرار الأمر كان ضمن أسلوبه التربوي في لفت انتباهنا إلى الأمور المهمة والتحضيض عليها.
رحم الله الوالد وسقاه من حوض المصطفى، ورزقنا الله برور الغالية مادحة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأطال بقاءها بيننا سنين عديدة وأزمنة مديدة؛ في طاعة الله ورسوله.
متع الله الجميع بأبويه ورزقهم البرور ، ورحم من قضى، وأخلف فجوته بالإيمان الراسخ وجميع موتى المسلمين والمؤمنين.
فاطمة محمد الأمين انجيان