
مع تصاعد مؤشرات التفكك داخل الدولة المالية تبدو موريتانيا معنية أكثر من غيرها باحتمالات التصعيد ومآلاته، فالبلدان يرتبطان بحدود طويلة تتخللها امتدادات اجتماعية وعرقية وثقافية، خاصة في نطاق واسع من المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية، مما يجعل موريتانيا أكثر عرضة من غيرها لارتدادات الانهيار الأمني والسياسي في مالي. ولا يقتصر التهديد على الجغرافيا وحدها، بل يمتد إلى احتمالات تسلل الجماعات المسلحة، وتدفقات اللاجئين، وتهريب السلاح عبر المسالك الصحراوية الوعرة.
ينضاف إلى ذلك ما تعانيه مالي من حالة شبه تفكك ازدادت حدتها بعد انسحاب القوات الدولية وتحول البلاد إلى ساحة نفوذ بين قوى عالمية وما صاحب ذلك من صعود الجماعات الانفصالية والمسلحة في الشمال والوسط، وعجز السلطة المركزية عن بسط نفوذها.
ضمن هذا السياق، فإن الثابت أن سيناريو سقوط الدولة المالية لم يغب يوما عن صانع القرار في موريتانيا، فقد استشعر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني حجم الخطر الذي تمثله الحركات الإرهابية في مالي وتحديات سقوط الدولة، فركز منذ وصوله إلى الحكم على إعادة بناء القدرات الأمنية والعسكرية لموريتانيا على أسس مهنية حديثة. وقد شهدت المؤسسة العسكرية تحديثاً واسعاً في العتاد والتدريب، دون أن تفقد طابعها الجمهوري المنضبط.
لكن الأهم هو النجاح الكبير في خلق جبهة داخلية قوية متماسكةوفي وجه التهديدات الخارحية من خلال تهدئة الساحة السياسية وتوسيع هامش الحوار ومحاربة الهشاشة الاجتماعية.
كما اعتمدت موريتانيا استراتيجية هادئة وذكية تجاه الأزمة المالية، فحافظت على توازن دقيق في علاقاتها مع مختلف الأطراف داخل مالي دون انحيازات مباشرة. ونجحت الدبلوماسية الرئاسية في بناء تحالفات ذكية مع الجوار، خاصة الجزائر والنيجر، في ما يشبه شبكة أمان إقليمية، وقدمت مبادرات دبلوماسية هادئة تعكس الثقل السياسي المتزايد لموريتانيا.
هذه الصورة مكنت موريتانيا، وتمكنها اليوم من تقديم نفسها كنموذج نادر في الساحل، دولة لم تسقط رغم محيطها الملتهب ومجتمع لم ينجر نحو العنف رغم الهشاشة.
لكن الحفاظ على هذا النموذج لم يأت من فراغ بل كان نتيجة لسياسات اجتماعية ركزت على تنمية المناطق الحدودية وتعزيز التلاحم المجتمعي ومأسسة العلاقة بين الأمن والمواطن من خلال الاستعانة بالفاعلين المحليين سياسيين ووجهاء، ورجال دين، في جهود الوقاية من التطرف.
خاتمة القول إن التجربة الموريتانية رغم التحديات الأمنية والجيوسياسية التي لا ينكرها أحد تبرز اليوم كاستثناء نادر في منطقة الساحل فقد جمعت بين اليقظة الأمنية والانفتاح السياسي فخلقت بذلك مستوى من اليقين والاطمئنان الأمني والسياسي والمجتمعي الضامن لمنع البلاد من الانجرار نحو مستنقع العنف.
د.اباب بنيوك