بعد أن هدأت العاصفة… آن أوان العقل.

أربعاء, 06/04/2025 - 06:08

كثيرون تحدثوا، وانقسمت التحليلات ما بين حماسة مفرطة، وتشكيك مفرط… أما آن لنا أن نُصغي لصوت الدولة؟ للصوت الهادئ الذي يعرف وزن القرارات ويقرأ ما بين السطور؟

إن الاتفاقية الأخيرة الموقعة بين موريتانيا والسنغال ليست مجرد وثيقة عابرة تنظم حركة الأشخاص أو تبادل المنافع، بل هي مؤشر على لحظة نضج سياسي موريتاني في محيط إقليمي معقد، ولحظة إعادة تموضع ذكي لدولة عُرفت بالحكمة، والصمت عندما يعلو الصراخ، والمبادرة عندما تتيبس قنوات الحوار.

منذ الاستقلال، كانت السنغال تطمح إلى علاقات أكثر انفتاحًا واندماجًا مع موريتانيا، لكن صانع القرار الموريتاني ظل يتعامل بتحفظ مدروس، انطلاقًا من تجارب مؤلمة في الماضي، وتقاطعات حساسة في الحاضر. تحفظ موريتانيا لم يكن ناتجًا عن قلق ظرفي، بل عن قراءة استراتيجية لطبيعة العلاقة الثنائية التي كثيرًا ما حملت في طياتها أفخاخًا ناعمة.

هذا الحذر الذي مارسته نواكشوط بحنكة، ترك فراغًا جزئيًا في الجنوب الموريتاني، لم يتأخر المغرب في استغلاله، في محاولة للتمدد عبر اتفاقيات تخلق له موطئ قدم في العمق الإفريقي من بوابة السنغال. لكن، وكما يقال في السياسة: “الفراغ لا يدوم إلا بغياب الإرادة”. واليوم، موريتانيا تستعيد زمام المبادرة، وتعيد ضبط إيقاع العلاقات الثنائية بما يخدم مصالحها، لا مصالح الآخرين.

الاتفاق الأخير مع السنغال، من حيث توقيته ومضمونه، يشكل رسالة مزدوجة:
• أولاً، أن موريتانيا ليست منغلقة، بل منفتحة بشروطها، وفق رؤيتها، وليس تحت ضغط أطراف أخرى.
• ثانيًا، أن التفاهم مع السنغال لا يُقصي أحدًا، لكنه أيضًا لا يُدار من طرف أحد.

وإذا أضفنا إلى ذلك زيارة الوفد الصحراوي رفيع المستوى إلى نواكشوط، بتركيبته المدنية والعسكرية، فإننا أمام مشهد جديد، تؤكد فيه موريتانيا أنها تقف على مسافة متوازنة من جميع الأطراف، لكنها تقف قبل كل شيء إلى جانب سيادتها وقرارها الوطني.

إن موريتانيا اليوم لا تُقاس بعدد الاتفاقيات، بل بجودة تموضعها داخل إفريقيا. فهي دولة تحظى باحترام الجميع، وتُدير علاقاتها بعقل بارد، ووجه مكشوف، دون أن تسمح لأحد بأن يستخدم أراضيها أو وزنها الإقليمي كأداة لتصفية حسابات قديمة.

ومن هنا، فإن القلق المغربي من هذا التقارب الموريتاني السنغالي لا يعود فقط للاتفاق في ذاته، بل للنهج الذي يُعبّر عنه: نهج موريتاني مستقل، متحرر من الإملاءات، يراكم الحلفاء بذكاء، ويضيّق الخيارات أمام من بنوا استراتيجياتهم على ضعف موريتانيا أو حيادها الدائم.

إن إفريقيا اليوم لا تحتاج إلى التبعية ولا إلى الصراعات الصفرية، بل إلى دول تملك رؤيتها الخاصة، وتحترم الآخرين دون أن تفرّط في ذرة من كرامتها. وموريتانيا، بما راكمته من تجربة، وبما تمثله من ثقل أخلاقي وثقافي وتاريخي، تقف اليوم في موقع الدولة الرصينة… الدولة التي تُسمع كلمتها عندما تتحدث، ويُحسب لخطواتها ألف حساب.

ختامًا، من يُراهن على هشاشة القرار الموريتاني أو يُخطط لهندسة موقعها من الخارج، فاته أن موريتانيا دولة تُتقن فن الصمت، لكنها إذا قررت… صنعت التوازن، وأربكت الحسابات.
هذه الاتفاقية، وهذه اللحظة، ليست فقط بين نواكشوط وداكار، بل بين موريتانيا والمستقبل.

د.محمدعالي الهاشمي