محمد محمود ولد بكار يكتب: محاسبات كبرى(الحلقة 5)

أحد, 01/21/2024 - 01:21

كان المختار صريحا في تجاوز هذه النقطة التي هي مسألة الوحدة الوطنية فقد كان خطاب ترشيحه في 20مايو 1957 لرئاسة الحكومة حينما كانت القلوب صافية أي قبل أن يدخل في التجاذبات المحلية، نداء وطنيا وبابا مفتوحا للشراكة ولتعظيم جميع الأدوار

" لنبني جميعا الوطن الموريتاني" كان من الصعب حينها تحديد سلم الأولويات في وقت ينبغي أن يظل كل شيء ضمن الأولوية ومع ذلك كانت الوحدة الوطنية في مقدمة الأولويات بالنسبة له وحافظ في ذلك المسعى على نسبة تفضيلية للزنوج تفوق 20% من المناصب العليا في الدولة في الغالب ، رغم ذلك فإن الحاكم الفرنسي يعتبرهم فقط 5%، ففي رسالة منه أي حاكم موريتانيا في "إندرْ 1957 موجهة لحاكم إفريقيا LAOF في داكار موجودة في مركز الارشيف في سينلوي يطلبه فيها توجيه إذاعة لمدة ساعة لموريتانيا وتكون 95% من وقتها بالحسانية و5% باللهجات الافريقية الولفية والبولاربة الذين يمثلون تقريبا 5%.

كما لم يكن المختار ذي نزعة جهوية فقد أحيط بأطر من كل أطراف موريتانيا أكثريتهم أصدقاء إلا أن الطابع الجهوي بل و"البوتيليميتي"بشكل أدق ظل باديا للعيان من خلال قوة تركيز هم في "النظام" والحكومة والحزب وفي الدولة العميقة .

حاول المختار كثيرا تقليص "بَوْتَلِمِتْ الحُكم" حيث كانت الواجهة السياسية أو بالأصح قمرة القيادة مزدحمة بهم (رئيس الجمهورية ،رئيس البرلمان ،وزير الدفاع ،أحمد كلِّ وزيرا … وإلى حدما مريم داداه المتنفذة في الحزب ) ولعل إزاحة الرجلين القويين إلى جانبه من أهل بوتليميت سليمان ولد الشيخ سيديا ومحمد ولد أحمد محمود كانت ضمن عملية التشذيب تلك ،في الواقع لم يكن ذلك الطابع الجهوي متعمدا أو يمكن القول إن له مبررات موضوعية فقد كان باب ولد الشيخ سيديا الذي ظل يختلف عن علماء بلدنا ، مطلعا وعلى درجة عالية من الوعي ومعرفة بعض العلوم الزائدة على علوم المدرسة المحظرية مثل علم الفلك والجغرافيا والتاريخ وكان يطالع الجرائد ويتفوق على علماء المنطقة بعمق النظر فقد لاحظ أن الفرنسيين متغلبين لا محالة وتعامل معهم على أساس الهامش الديني الذي سيمنحونه للمسلمين ، ولذلك انفتح على التعليم العصري (المدارس الفرنسية)التي ظلت محرمة بفتوى الفقهاء على طول وعرض البلاد وهكذا تم بناء مدرسة أبي تيليميت التي تم تحويلها من المذرذرة 1914 ثلاث سنوات بعد إنشائها كأول مدرسة في أرض البيظان وقد صدر مرسوما باغلاقها رسميا على خلفية صفعة من أحد الطلاب الذي هو اعمر سالم ولد أحمد سالم ولد إبراهيم السالم إبن أمير اترارزة حينها لمعلمة فرنسية حسب بعض الروايات ،هذه المدرسة التي كانت في الحقيقة لأبناء الشيوخ والأسر الوازنة فقد تعلم فيها محمد فال ولد عمير والمختار ولد يحيى انجاي والمختار ولد حامدن ومعلم المختار ولد داداه فقد تحول معها الطلاب إلى بوتليمت واصبح سنوات عدة هي المدرسة الوحيدة التي تفتيها الناس من كل مكان كما حوّلوا بعد ذلك معهد بوتلميت إلى مؤسسة معترف بها تدرس الفرنسية وبهذا أصبح بوتليميت رافدا كبيرا لموظفي الدولة يوازي إندر وفرنسا وهكذا يكون المرء "بوتليمتيا" حتى وهو من غير أهل بوتليميت وهكذا أيضا أصبحت دفة الحكم تُحرك من طرف أهل بوتليميت بصفة عامة لانه باستثناء النخبة الزنجية التي كانت موزعة بين اقدم مدرستين في البلد مدرسة كيهيدي 1906 ومدرسة بوگى 1908 .

ثانيا أن العاصمة كانت في اترارزة نفس المحيط الاجتماعي والقبلي والجغرافي الذي به قاعدة واسعة للتعليم وضمن نفس الفضاء الجغرافي والاجتماعي المترابط مع بوتيليميت .

وتبيانا للحقيقة لم يملك المختار ميولا جهويا ،رغم تعرضه لحدثين سيكون لهما بكل تأكيد الأثر في النفس أو من المحتمل أن يخلقا شعورين متناقضين أو انطباعين متعاكسين في ميدانهما في مجال التوازن، الأول عندما عاد لأرض الوطن وهو يملك طموحا أو هو مهيأ بالأصح من طرف المستعمر لقيادة البلد كان أول ما واجهه رفض عبدو الله ولد الشيخ سيديا لترشيحه نائبا عن بوتليميت حيث كان ذلك ممر العبور الإجباري لمشواره السياسي الجديد فقال عبدو الله إن هناك مقعدان مقعد لأهل الشيخ سيدي ومقعد لبونَ مختار وبالتالي لا يوجد مكان لشخص آخر وكان ذلك الصد جارحا في بداية المشوار وأمام جميع الطيف السياسي مما اضطرّه للبحث عن مكان آخر للترشح لأن ذلك الترشح كان وسيلته الوحيدة للانتخاب بعد ذلك وزيرا أولا، وهكذا ترشح المختار من شنقيط محل محمد ولد المنير .

أما الشعور الثاني فرغم أن الفرنسيين اكتشفوا شخصية المختار المتوازنة فإن زيارة ديگول الاستثنائية وربما الفريدة من نوعها وتوجهه رأسا إلى شخص عبد الله ولد الشيخ سيديا في أبي تيليميت الذي لم يكن به مركز للإدارة الفرنسية وقبل الإعلان عن نيته منح الاستقلال لإفريقيا ، كانت في الحقيقة خطوة من أعلى مستوى لرد الجميل لهذه الأسرة من طرف الفرنسيين وكانت بشكل آخر زيارة لموريتانيا حيث استدعي لها أغلب الشيوخ والمشايخ ، وتضمنت الزيارة توكيدا للعناية أيضا وردا للجميل مرة أخرى للتشاور بشأن من سيحكم البلد بعد رحيل الادارة الفرنسية أو حتى قبل ذلك فترة الحكم المحلي وقد تحدث ديكول مع عبدو الله على انفراد حول رأيه في من يمكن أن يختاروه لذلك ، كان سليمان ولد الشيخ سيديا حاضرا إن لم يكن هو ترجمانهم فالتفت إليه عبدو الله وقال له "اتعود إنت ظرك أسوَ إعليك فيه ، يغير إحن ذيك إرواي التي لا نعرف ما يترتب عليها لانريدها" وأشار عليه بالمختار ولد داداه رغم أنه ليس الوحيد الحاصل على شهادة عليا فقد كان محمد ولد مولود ولد داداه ثاني موريتاني يحصل على شهادة الباكالوريا 1948 بعد راسين تورى ، ثم المختار ولد داداه 1949 وقد بقيت هذه المحادثات طي الكتمان إلا داخل أهل بوتليميت أو لم تتم إذاعتها بعد ذلك بصفة رسمية . وهكذا ربما يكون المختار قد ظل محشورا بين هذين الشعورين الممزوجين بالامتنان والامتعاض مما يخلق لديه إضافة لشخصيته المتوازنة توازنا إضافي إزاء اللاعبين الأساسيين في البلد فلا يمكنه أيضا نسيان الامتنان لأهل آدرار وشنقيط بالأخص. ألا يمكن أن يكون ذلك واحدا من روافد العلاقة بأحمد ولد محمد صالح مع ما تقدم من رجاحة عقله ودوره المحوري في إلى جانب المختار؟ !

ابتلع المختار أغلب التيارات السياسية بما في ذلك حركة الشباب التي كانت تطالب بالاستقلال( سيدي أحمد ولد الطائع بمب ولد يزيد

الشيخ ماء العينين اشبيه

ويحي ولد منكوس ،احمد باب ولد أحمد مسك وبوياگي وهيبة ..) والذين أسسوا النهضة وكذلك الشخصيات الوازنة في حزب الوفاق وكتلة گورگول من أمثال صمبولي ، والحضرامي ولدخطري كانت الدولة رغم جهود المختار للاستقلال بها عن التوجهات الفرنسية ما زالت تسير في كنف التيارات السياسية المتناقضة وتأجيج المشاعر المتعارضة من طرف الفرنسيين خاصة السفارة الفرنسية في نواكشوط ففي سنة 1965 ألقى محمذن ولد باباه بوصفه أصغر المعلمين وكتقليد في مثل هذه المناسبات خطابا بمناسبة عيد الاستقلال الفرنسي الذي كان حدثا كبيرا ويحضره الرئيس قال فيه "إنه من غير المعقول أن تكون العربية في موريتانيا تدرس في المدارس كخيار مثل اللغات الأجنبية الفرنسية والاسبانية والانجليزية". أغضب الخطاب السفير الفرنسي الذي لاحظ الحضور وقوفه مع المختار وهو يودعه لوقت أطول من المعتاد دون أن تتجلي حقيقة تلك المحادثة إلا بعد سنوات إذ كشف المختار لمحمذن ولد باباه بعد تعيينه له وزيرا للتعليم 1972 عن تلك المحادثة كهدية مع تعيينه حيث قال له إن السفير الفرنسي في تلك الوقفة طلب منه اعتقاله وطرده من الوظيفة بسبب خطابه ذلك وكان رد المختار وفق لباقته بأنه سينظر في الأمر …حينها أي حين تلك الحادثة كان مدير التعليم الابتدائي والثانوي فرنسيا، وكانت له علاقته وثيقة بمجموعة ال 19 .

الفرنسيون بصفة خاصة لا يهادنون في المسألة الثقافية أبدًا.
ظهرت مجموعة من المناشير بعد ذلك موغلة في الكراهية والتطرف ضد البيظان وتصفهم بالبرابرة الرعاة الهمج، توجت هذه المناشير بمنشور 19 المعروف بمفردات الكراهية والعنصرية ووُوجهت هذه المناشير بمناشير مضادة من نقابة المعلمين العرب بنفس النبرة ونقابة كتاب الضبط العدليين وغيرهم، وعلى إثر ذلك نشبت أحداث 1966 وتم سجن الجميع بمن فيهم شخصيات سامية: الشيخ ولد خطاري أمين عام لإحدى الوزارات وعثمان ولد سيدي ميلة مدير في الضرائب وبمب ولد سيدي بادي رجل أعمال ومكتب نقابة المعلمين العرب … لم يكن الأمر عدائيا بالنسبة للمساجين القوميين العرب فقد طلبوا من إخوتهم الزنوج أن يدرسوهم الفرنسية ويتعلموا منهم العربية كان رد "عزيز با "رئيس محكمة الاستئناف والشخص الأول على لائحة 19 أنه لن يفعل ذلك لأنه ضد "الحرطنة " وعندما أطلق سراح المجموعة ذهب "عزيز با "من يومه للسينغال حيث تم اكتتابه كقاض وتعيينه رئيس محكمة لاحقا ولم يعد إلى موريتانيا إلى اليوم . أفراد الادارة الذين قدموا كموظفين في مؤسسات الدولة الوليدة إلى انواكشوط مع تحويل العاصمة 1957 من سينلوي هم سينغاليون في الغالب شكلوا اللبنة الأساسية لكل تلك المشاعر الموغلة في كراهية العربية وكانوا الوسيلة الرئيسة للمخططات الفرنسية لزرع التفرقة في البلد ، بعدما اندمجت مكونات الشعب وانصهرت في توجه واحد في مؤتمر آلاگ 1958 ضد إدارة "موراغ" . الزنوج الموريتانيون سلميون بطبيعتهم وينتمون لنفس التاريخ الاجتماعي للمنطقة ولهم نفس نظرة المختار ولد داداه التي لخصت معنى كلمة "البيظاني "التي تقابلها بالفرنسية كلمة "مور" حينما سأله سينغور الذي نعرف جميعا مشاعره حول المسألة الزنجية فكان جواب المختار أن البيظاني تعني البربري الذي يحمل الثقافة العربية والممزوج بقوة بالمزاج الزنجي ". بالتأكيد أننا لانتفق مع المختار في هذا التأصيل العرقي أي أن الأصل هو البربر ، لكن نتفق معه في الفهم في سياقه التاريخاني والبنية الثقافية والفكرية والحس والمشاعر المشتركة إزاء عناصر ثقافة البلد وعلى كل حال فقد استحسن سينغور ذلك الجواب وظل يردده . والحقيقة أن البيظان عجين من ثقافات وأعراق تعايشت على هذه الأرض ومرت بفترات سلم وحرب ظلت عابرة ولم تؤثر على جو السلم والأخوة.

في الحقيقة لم ينسجم الشباب ولا القوة الحية في سياسة المختار فلم تكن هناك عقيدة فكرية تلهب صدور الشباب باستثناء الموقف الصلب الذي أظهر فيه المختار قوة الشكيمة من القضايا الثلاث التي واجهته في بداية مشواره وكانت غاية في الصعوبة بصفة عامة ، والإحراج بالنسبة للقضية الثانية منهم ، أما الأول فهو مطالبة المغرب (دولة قوية قائمة منذ 400سنة ولها علاقة منذ أكثر من 100 عام مع الولايات المتحدة وعلاقات متميزة مع مصر والسعودية ) مطالبتها بموريتانيا كجزء من أرضها ،حصل الموقف على دعم تلقائي من عبد الناصر الذي يريد الوحدة وضد تجزئة الوطن العربي وزيادة الكيانات القزمية، وهكذا واجهت موريتانيا رفضين بالاعتراف واحدا من الأمم المتحدة والثاني من الجامعة العربية وكانت فرنسا وحدها ضد هذه الدعوة بصفة قوية كما كانت المغرب خاوية الوفاض من حيث الدعائم الموضوعية لهذه الدعوة (لم يكن لدى المغرب تاريخيا أي تأثير سياسيي على موريتانيا ناهيك عن عدم وجود غفير ولا عملة ولا عامل ولا عَلم ولا دعاء في المنابر ولا أي روابط، وهكذا لم يمتد سلطان ملك المغرب إلى هذه الأرض وقد استشهدت موريتانيا على لسان باحثها محمد ولد مولود ولد داداه باطلع محمد ولد امحمد شين أمير إدوعيش 1781 التي يذكر فيها حدود موريتانيا شمالا إلى تخوم الصحراء الغربية تيرس الظّبْ.

گلب ميجكْ اگلب الغين……كالهم نجع اخلاص الدين(…)

.أما الحدث المحرج فهو هجرة أمير اترارزة ووزراء من حكومة المختار وشخصيات أخرى وانضمامهم لأحمدو ولد حرمة في المغرب كانت ضربة قاسية خاصة أنها شكلت الدعم الوحيد الذي امتلكه المغرب في مطالبته بموريتانيا فقد كانت هذه شخصيات وازنة سياسيا واجتماعيا محمد فال ولد عمير امير اترارزة والدّي ولد سيدي بابه وزير وشيخ اسماسيد ومحمد المختار ولد اباه وزير وابن أسرة دينية مرموقة ومن ولايات مؤثرة في تاريخ البلد وحاضره. لم يكن الأمر بهذه البساطة فقد شكل حدثا مبرما ضد المختار .

أما الموقف الثالث فهو الوضعية الأمنية المغلقة والغامضة في بعض جوانبها اعمارة النعمة ، وأطار وانواكشوط . هل كلها مر فعل الجناح العسكري لهذا التيار ويستهدف الفرنسيين بصفة اساسية ، والبلد ما يزال بحاجة لهم في جميع المجالات، ولم يعد الأمر على ما يرام، وهكذا كانت أولوية المختار هذا التحدي القاسي..

يتواصل

ملاحظة للقراء
قد أتوقف بعض الوقت عن متابعة هذه الحلقات بسبب بعض الانشغالات وعليه فإني أطلب من كل من لديه ملاحظة حولهم أو معلومات إضافية أن يوافيني بها مشكورا على هذا الإيميل [email protected] أو على واتساب موقع العلم .
فالهدف هو جمع المعلومات واستنطاق التاريخ وكتابته بشكل موضوعي لكي نستفيد منه ونصحح الأخطاء.
ولكم مني جزيل الشكر .

الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار