محمد محمود ولد بكار يكتب: محاسبات كبرى(الحلقة 2)

أربعاء, 01/17/2024 - 15:54

لم يستطع الرئيس كسب رهانات التأسيس والخروج من الانغماس في التسيير اليومي للدولة، ولهذا لم تعرف الدولة المشاريع العملاقة باستثناء طريق نواكشوط-النعمة والميناء، خاصة الاستثمار في الإنسان وترقية القطاعات الاقتصادية القاعدية في البلد والنهوض بموازاة الدول التي استقلت معها في نفس الوضع مثل ساحل العاج والتوگو والكنغو ابرازافيل، فقد ظلت وطأة الرؤساء قوية، وكان المختار قد اختار المضي في النظام الرئاسي عكسا لرأي أغلبية من أصدقائه على رأسهم المختار ولد يحيى انجاي وسليمان ولد الشيخ سيديّ. وقد فرضت هذه الوضعية على المختار أن يُظهر سلطانه وقوته، ساعده في ذلك كثيرا رجاحة عقل أحمد ولد محمد صالح، ما تجسد في موقفين، كان في الأول منهما هو من تفاوض مع جماعة النهضة في تيشيت على هامش زيارة له هناك لتقوية كفة المختار وتقليص معارضته حين كان حاكما على منطقة تجگجه، وقد تمخض عن ذلك تكوين حزب الشعب الذي هو عبارة عن اندماج معارضة المختار النشطة معه في حزب واحد وتحت سلطانه، في مظهر التغول الثاني لحزب المختار بعد اندماج ثلاثة أحزاب في الاتحاد ليصبح حزب التجمع سنة 1958. كما أنقذ ولد محمد صالح صديقه المختار من انقلاب الشرعية داخل البرلمان في حادثتين: الأولى عندما أخذ المجلس التنفيذي للحزب قرارا بتقليص ميزانية البرلمان، فرفض البرلمانيون ذلك القرار بالتصويت ضده في غرفتهم (11 صوتا مقابل 6 أصوات لصالح المختار)، ويبدو أن ذلك صار عرفا برلمانيا بحيث أصبحت نهضة البرلمانيين الكبرى لا تلمس إلا أمام رواتبهم أو ميزانيتهم). أما الموقف الثاني، فعندما أراد المختار إزاحة سليمان ولد الشيخ سيديّ واستبداله بالشيخ سعدبوه كَنْ سنة 1963ورفضها النواب، وبقى مع المختار أيضا 4 أصوات فقط. والغريب أن التيجاني كويتا، الذي سيكون رئيسا للبرلمان بعد ذلك، ذهب في البداية لصف معارضة قرار عزل سليمان. وقد ترتب على هذا الاصطفاف، الذي قلص من شرعية وصورة المختار إلى درجة لم يعد حكمه معها موضوعيا، إعادة بنية الحكم والنظام، وتم ذلك خلال مؤتمر كيهيدي في يناير أو فبراير 1964 الذي زاد بدوره الانقسام في صف المختار فكاد أن يعصف بحكمه نهائيا. وهكذا عندما اتضحت الصورة طلب أحمد ولد محمد صالح من المختار رفع الجلسة إلى أجل غير مسمى، وبعد أشهر قليلة أعلن في مخطط محكم عن مؤتمر للشباب في كيهيدي لن يحضره الكثيرون من معارضيه. وأثناء انعقاد المؤتمر، حوّل المختار أعماله إلى اجتماع استثنائي للحزب الحاكم، وعارضه في القاعة كل من شيخنا ولد محمد لقطف (حفيد أحد شهداء معركة انيملان) وهيبه ولد همدي، وتم اتخاذ قرارات ثارت بسببها ثائرة جناح كبير في الحكومة والحزب، وكان على رأسهم الدّي ولد إبراهيم وبوياگي ولد عابدين وحمود ولد أحمدُ وشيخنا ولد محمد لقطف، بالإضافة إلى خط معارضة المختار التقليدي. وعلى اثر ذلك ذهب الدَّي وبوياگي وحمود وشيخنا إلى المنطقة الشرقية، وأقنعوا الشيوخ التقليديين بالتوجه لنواكشوط من أجل عزل المختار. وجاء شيوخ آدرار، وفي الطريق مر وفد بوياگي بعبد الرحمن ولد بكار الذي اختار في النهاية صف المختار، مما ساهم في إفشال الاجماع ضد المختار. وكان ذلك الموقف هو الطبيعي لأكثر من سبب، فقد ظلا حلفين من البداية (عبد الرحمن والمختار)، وهكذا تحوّل الرئيس المختار من الوهلة الأولى إلى المركز الرئيسي للأحداث، وهكذا أمسى يتوجب عليه أن يكون قويا لكي يحمي نفسه ونظامه. وكان هذا هو بداية مسلك الديكتاتورية. وقد تكدست كل الصلاحيات بيده دون أي توازن في القوى، ودون وجود أية آلية وظيفة لاتخاذ القرار. وظلت هياكل الدولة الإدارية والقانونية تعرف ضعفا مستمرا وسحبا للخلف بسبب سيطرة السياسية على الحياة والتوجهات الأخرى وضغط سلطة الرئيس. وهكذا تزايدت الضغوط الاجتماعية المستمرة ضد أي فاعلية مدنية، وظل الرئيس وحده هو من يتلقى الضغوط ويتعين عليه التعاطي معها بقوة وجدية خاصة أنها تدخل في صلب رهانه: البقاء في السلطة .
لم يكن استفتاء 1956 هو أول امتحان فشلت فيه النخبة وصوتت فيه غالبية الشعب بـ "ويْ": أي نعم لبقاء الاستعمار. والغريب أن غالبية النخبة كانت متحدة في ذلك المسعى، وبذلك امتد أمد الاستعمار لأربع سنوات إضافية. ومن دون أي مقدمات قبل الاستقلال لم تمدنا تلك النخبة بأي فهم جديد للدولة الوطنية، ولم ترَ، بادئ الرأي، في نفسها القدرة على إنشائها. وهكذا أيضا كان المزاج العام يرى نفس الرأي. لم يكن ذلك –للأسف- آخر إخفاق لها، فقد كان ثمة إخفاق ثان وثالث يدل على عدم الشعور الكامل بحجم التحدي. لقد جاءت النخبة لمؤتمر ألاك خارجا عن أي حسم أو اتفاق مبدئي رغم أنهم أصدقاء وقد شكلوا تنظيمات سياسية (أحزاب، روابط) في إطار تفاهم تام بينهم. تُرى على أي شيء هم متفقون !!! قد تكون أبهى صور تجليات اتفاقهم أن شكلوا تنظيما خلاسيا كان رئيسه الشرفي ديگول باسم الاتحاد، لكنه على الأقل يعكس انسجاما في الرأي خاصة قبل الحصول على الاستقلال التام بحيث كانت أغلب التنظيمات والمبادرات السياسية التي ظهرت مزيجا متجانسا ومتفاهما من المواطنين دون النظر في العرق أو اللون. لقد كان أول عمل سياسي منظم هو معارضة النائب أحمد ولدحرمه، رئيس حزب الوفاق الذي يضم شخصيات مهمة مثل الحضرمي، والذي يصنفه الجناح الفرنسي الحاكم بأنه ضد فرنسا، وقد جسد هذا الجناح حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني بالرئاسة الشرفية للجنرال ديغول، وبعضوية سيدي المختار ولد يحيى انجاي رئيسا، وآمادو صمبه انديوم، ويوسف كويتا، وصال اكليدور، والمختار ولد داداه، ومحمد ولد مولود، وأحمد ولد عيده، ومحمد عبد الله ولد الحسن. كما ضمت رابطة الشباب الموريتاني الدكتور بوبكر ألفا با، وسومارى گي سيلي، وكوني على بري، ومحمد ولد الشيخ، ويعقوب ولد أبو مدين، وأحمد بابه وأحمد بزيد أبناء أحمد مسكه.
ومع ذلك، ظلت مسألة الوحدة الوطنية التحدي الوحيد الذي رعاه المختار مبكرا حق رعايته، وقام بخطوات سابقة لعمر الدولة بشأنه، فقد ذابت في تفكيره تلك الفوارق حيث كان يشيد بشكل قوي في مذكراته وفي مراحل تعلمه بمعلمه السينغالي بوبكر فال (من "سينلوي") الذي كان له التأثير الكبير في شخصيته من بين معلميه الفرنسيين وطيلة مساره الدراسي. كذلك معلمه من مدينة "ماتام" السينغالية الذي يدعى "إسى كان"، مما أثر في الظاهرة السياسية الموريتانية التي كانت تمثل جهدا وفهما مشتركا لأبناء البلد لمسألة الأهداف والمبادئ دون الوقوف عند العرق في بواكير عملهم السياسي. ومع ذلك، ظلت هذه القضية هي أم مشاكل الدولة الموريتانية، لماذا؟!!! لأنها حجر التقسيم ومفتاح التحكم بالبلد برعاية المستعمر.

لم يكن المختار بأي شكل من الأشكال متواطئا مع المستعمر في هذه القضية، بل ظلت جهوده كبيرة ومتميزة فيها، ففي حين كان الزنوج يمثلون نسبة 10% من جموع الشعب الذي كان أقل من 800 ألف نسمة، منحهم في مسودة دستور 1961 وظيفة نائب الرئيس، ولأن نخبهم كانوا يرون أنه سيمنح الوظيفة "لصامبولي"، ولأسباب اجتماعية منغرسة في النعرات، رفضوا ذلك المنصب. كما ضمت أول حكومة له كل من يوسف كويتا ، جاكانا سيلي ، وان بيران وزير خارجية، وعبد العزيز صال مديرا للديوان، ومامادو صمبولي با ، ومنحهم رئاسة البرلمان. كما حافظ لهم باستمرار على 25% من الوظائف السامية.
لقد وُضعت شرارة الأزمة التي ستكون تاريخية كأول عقبة في وجه الإجماع ، أمام إسم الدولة من طرف الإخوة الزنوج. والواقع أن تيار التمايز هذا ولد في كنف الاستعمار دون أي مبرر، فقد كان هناك اندماج كبير، ولم تكن نخب الزنوج تملك أي ميول بهذا الحجم لجنوب النهر لأنهم جزء من هذا السعب. كانت مكونة الزنوج حاضرة في التاريخ المشترك لهذه الأرض. كان زنوج دولة التكرور متحالفين مع لمتونة ضد گدالة في المعركة التي قتل فيها الأمير يحيى بن عمر الزعيم الأول للمرابطين، كما كانت إحدى كتائب يوسف بن تاشفين خلال فتح الأندلس زنجية. كما لم يؤد مقتل بوبكر بن عامر على يد الزعيم الزنجي "أدار" بعد تقريعه له على طريقة الذبح والسلخ يوم العيد أي ردة فعل عنصرية.
كان الزوايا يتحالفون مع الزنوج الذين غيروا عقيدتهم من الوثنية للاسلام، وكان المغافرة يساعدون "دنياكوبى" ضد الزوايا، في نفس الوقت كان البعض من بني حسان ضد الثورة التي قام بها "سليمان بال" وساعدوا "لام تور " الذي استنجد بهم رافضا أن يكون المامي إماما، كما ساعدوا ثورة "عبد القادر كنْ". رغم سيطرة الثقافة والعنصر العربي الصنهاجي، كانت المنطقة تشهد تثاقفا قويا، فقد تأثر العرب باللباس الزنجي: الدراعة بدل القميص، والتدينيت بدل العود، وغيرها. وكان الزنوج يكتبون بالأحرف العربية، وكانت نساء البيظان اللاتي يعانين من موت الأولاد يتيَمّنّ
بأسماء زنجية لأبنائهم، كما كان بعض علماء الزنوج يعطون الإجازة في أرض البيظان مثل شيرنو حاميدو تال. وعندما قامت دولة الإمام ناصر الدين انخرطت الشعوب الزنجية في جيولوف وفوته وكايور والوالو إلى جانب البيظان بقيادة ناصر الدين ضد حكامهم الذين كانوا يسترقونهم لصالح النصارى. وكانوا يسمونهم "توبنان". وعند مقدم بني حسان ظلت التحالفات تنعقد على أساس الولاءات السياسية بغض النظر عن العرق، فكانت قبائل بني حسان تحارب أبناء عمومتها ذودا عن حلفائها من الزنوج، ومن أشهر أمثلة ذلك مقتل أمير الترارزة اعلي الكوري سنة 1200 للهجرة على يد تحالف بين فوته وأبناء عمومته البراكنة. وعند اغتيال سيد ولد محمد لحبيب سنة 1871 جاء اعلي مع أخواله الولوف في الضفة اليسرى للنهر ليأخذ بثأر أخيه، وسار بمن معه من البيضان والسودان، وحدثت معارك عديدة، كما عمل الإمام عبد القادر كنْ على توفير الحماية والإقطاعات للنابغة الغلاوي في عموم بلاد فوته. ونفس الشيء وقع في حروب الحاج عمر تال الذي تحالف معه بعض البيظان ضد أولاد امبارك من جهة، بينما تحالف بعض الكنتيين مع دولة حمدي لبو الزنجية ضده.
وفي يوم 25 فبراير 1855، أحرق فيديرب 25 قرية في الوالو (جنوب النهر) إمعانا منه في ترهيب السكان الذين تحالفوا مع اعلي ولد محمد لحبيب ضد النصارى الذين صادروا أراضيهم في الوالو، ضمن سياستهم الزراعية الاستعمارية. وهكذا ازداد حجم مأساة السكان، وتفاقم الفقر بين قبائل الضفة اليسرى. وردا على ذلك الوضع المأساوي، قرر الأمير اعلي ولد محمد لحبيب، سنة 1880، فتح شمامه (الضفة اليمنى، بموريتانيا) أمام سكان الوالو السينغاليين ليزرعوها، فقسم عليهم آلاف الحقول وشجعهم على التوطن في قرى تؤمنهم من بطش المستعمر. وكانت سببا لوجودهم لليوم. وعندما فشل المقاوم السينغالي سيديا جوب في دحر الاستعمار الفرنسي الذي هزمه في عدة معارك، وطارده المجندون داخل السينغال، قرر الأمير اعلي ولد محمد لحبيب منحه اللجوء في الترارزه (شمال النهر)، ودفعت إمارة الترارزه ثمنا باهظا على إثر ذلك، إذ نظمت فرنسا حملة عسكرية عنيفة اجتازت النهر وخربت القرى وأشعلت الحقول وقتلت الكثير من الأنفس. وتحمل سكان إمارة الترارزه كل تلك المآسي لأنهم يعتبرون أن مناصرة المقاوم سيديا جوب يفرضها الدين المشترك والتاريخ المشترك والعلاقات الطيبة المتبادلة. كما أن الحرب التي قامت بين الأمير أعمر ولد المختار والفرنسيين من أجل إفشال مشروع الاستعمار الزراعي والدفاع عن النفوذ السياسي لإمارة الترارزة وتأكيد السيادة التروزية على "دكانة" (مركز المستعمرة الزراعية)، ليس إلا نوعا من المقاومة المشتركة والوقوف مع الزنوج ضد الفرنسيين. وفي سنة 1889/1890 احتضن بكار ولد اسويد أحمد زعماء المقاومة الزنوج من الضفة اليسرى (عبدول بوكر من بوسيا، وعالي بوري انجاي من جولوف)، وتم مقابل ذلك الشطب على الإتاوات التي كان يقدمها الفرنسيون لبكار الذي رفض تسليم مجاهدي الزنوج الذين لجأوا إليه طيلة 4 سنوات. وفي سنة 1894 على هامش توقيع الاتفاق حول حماية تجارة العلك، تحفظ المختار ولد أحمد ولد عثمان (زعيم الشراتيت) على المادة 14 التي تضمن حماية فرنسا لسكان الضفة اليمنى من الزنوج حيث اعتبر ذلك تقسيما لمجتمعه معللا بأن سكان تلك المنطقة من مواطنيه وذلك اعتراضا ضمنيا على وجود سلطة النصارى على الضفة اليمنى. وكان موفد النصارى للبيظان هو الزنجي "دودُ سك" إبن المقداد لأنهم يعرفون أنه يتفاهم مع البيظان الذين لا يتحرجون منه. كما وفر بابه ولد الشيخ سيديا المأوى للشيخ أحمدو بمبه (عندما نفاه الفرنسيون إلى موريتانيا). وعندما ترشح سيدي المختار ولد يحيى انجاي، مستهل الخمسينات، للبرلمان الفرنسي مال إليه أكثرية البيضان إذ لم يكن الموريتانيون يعرفون أي شيء اسمه العنصرية.

من صفحة الاعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار