قالوا بل لبثت ثلاث مائة سنين إلا تسعا / سيدنا عمر حماه الله

أحد, 01/22/2023 - 19:24

الحقيقة / تيشيت/ دخلت المدينة التاريخية ليلا وليس معي سوى بضع ورقات نقدية كزاد معي إذالم أهتدي على بيت أهلي فأنظر في مطاعمها أيها أزكى طعاما فأشتري
لكنني كنت أقول في نفسي لا لن أحتاجها فبيت جدي معروف وكبير وعامر بكل شيئ أليس الحكاية تقول :إن قدره كان يسع ابن اللبون من الإبل,وأن إبله كثيرة....
لابد أن في ذلك القدر بقية طعام، والتلاميذ والخدم سيستقبلونني بحليب بكرة زرزور أو ناقة عودة-
تملؤ الهجم عفوى وهي وادعة ---- حتى تكاد شفاه الهجم تنثلم-
فطفقت أستخبر الأخبار عن نحو أهلي- وأسأل الركب عنهم عهدهم عهدي- فإذا بجلهم غرباء ليسوا مثلي- فيممت وجهي شطر المدينة القديمة سالكا أزقتها الضيقة المؤدية إلى مسجدها العتيق فإذا بشيخ مسن يسير وحيداً في الزقاق فسلمت عليه وقلت أين بيت جدي ياشيخ؟
فقال من هو جدك؟ وما أمارات بيتكم فقلت البيت ينعتونه ببيت العلم والعمل أما جدي فيد عونه شيخ الشيوخ فهو شيخ الحلقة فعلا يدرس العلم فيما على مختصر خليل حسن الإقراء له، وهو إمام في الفقه، والحديث، وأصول الدين فنظر إلي وقال يابني لا أدل مكان هذا البيت ولا أظن أن جدك اليوم هنا فقلت أين ذهب ؟هل ذهب في رحلة أخرى إلى الحج كالتي قادته إلى الأزهر ومناقشة شيخه ؟أم أنه ذهب في مهمة صلح بين القبائل المتناحرة ؟ أم بلغه أن شجارا قد نشب بين أبناء عمومته في البادية فذهب يصلح ذات البين ؟ أم أنه خرج للتجارة على رأس عير محملة بالبضائع كعادته... وهل تعرف بيتنا الثاني أقصد بيت بن عمنا فقال الشيخ ومن هو بن عمكم وما أمارات بيته؟ فقلت مثل بيتنا وهو عالم فقيه نحوي لغوي أصولي بياني عروضي منطقي شاعر ناثر متقن متفنن حسن الخط بديعه.... فنظر إلي الشيخ وقال يابني اسأل عن أهلك شرفاء المدينة وعرفائها يبدوا أن أهلك أهل علم وفضل ولا يعرف أهل الفضل إلا ذووه فقلت آه الشرفاء أحسنت تقصد مؤسوا المدينة أهل الأرض قال نعم ،
فذهبت أستفتي كل أحد منهم لقيته عن قومي وعن مكان بيت جدي فقالوا ومن جدك فقلت هو الذي يلقبونه بـ "شيخنا وشيخ أشياخ شيوخنا" وترون فيه كفاية عن البصري واليوسي فنظروا إلي في حيرة واندهاش من أين قدمت؟ وكم لبثت؟ فقلت قدمت من الجنوب ولبثت يوما أو يومين.
قالوا: بل لبثت ثلاث مائة سنين إلا تسعا..! فانظر إلى تاريخك لم يتسنه ودفعوا إلي رقعة قد كتب فيها ((وفي عام 1154 انتقل هؤلاء الأبناء من تيشيت إلى بلاد فيته من بلاد سودان فأدركوا فيها رفعة وقدرا جليلا ولما حلت بلاد فيته بفتنة أحمد اللب الفلاني استقلوا بسكنى قرية من قرى فيته اسمها باسكنو واحترم هم الفلان وصاروا ملجأ لجميع أولاد داود بالميرة وحفظ من أتاهم منهم من عدوه.... )) كتبه محمد صالح بن عبد الوهاب الناصري كان الخروج سنة 1154 وها أنت تعود الليلة 27/من جماد الثاني 1444 أليست هذه ثلاث مائة سنين إلا تسعا ؟فقلت صدقتم والله ،فبطلت كل الأوراق النقدية لدي وكسدت كسادا لم أرى مثله من قبل في حضرة هؤلاء القوم الكرام الشرفاء حيث تجمهروا حولي مستقبلين بل ومستبشرين وكأنهم عثروا لتوهم على جوهرة نادرة في أعماق صحرائهم البكر فلما تبين لي ذلك علمت أن الله قد هيئ لي من أمري رشدا وآواني إلى ركن شديد فطرحت أسئلتي:
أين مرابع قومي أين بيت جدي وهل لايزال قدره الكبير راسيا؟
فقالوا: نحن نقص عليك نبأهم بالحق: إنهم رجال اتقوا ربهم وتعلموا شرعه فزادهم علما فكانوا كغيث أصاب أرضا طيبة أمسكت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير فنهل الناس من علمهم مشرقا ومغربا،
أما القدر فكان هنا قدرا كبيرا وبعد بدء مايسمى بمهرجان المدن التاريخية ادعاه بني فلان ولم ينازعهم فيه أحد... لكنني استدركت على الرقعة التاريخية قائلاً إن الذي خرج هم الأبناء فأين الأجداد؟ وأين دور قومي الذين خرجوا؟ فالتفت إلي شيخ وقور وقال لي يابني بعد خروج قومك كسدت الدور وتغيرت أوضاع المدينة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية... ثم أردف قائلاً هل ستصل معنا الفجر غدا في المسجد العتيق قلت نعم إن شاء الله فلما قضيت الصلاة أنتبذ بي مكانا شرقيا فأراني ضريحا مستويا وقال لي هذا قبر جدك الذي كان عالما تقيا أبيا وكانت خيوط الظلام لازات تلف المكان فأضاء على الصخرة مصباحا يدويا وقال أنظر فإذا منقوش عليها بخط مقروء عربيا : ((بسم الله الرحمن الرحيم هذا قبر المرحوم الحاج الحسن بن آغبدي الزيدي اللهم اغفرله وارحمه وأكرم نزله ووسع مدخله )) فاحتضنت تلك الصخرة مذهولا وسط جو من السكينة والمشاعر المختلطة كنت أسمع عن جدي شيخ الشيوخ واليوم أجلس عند رأسه أقول في نفسي هل سيشعر بي؟ هل يراني ويسمع كلامي؟ ويعرف من أنا؟
ثم ناديت الشيخ قائلا: لاتتعجل مازال شيخنا الثاني سيدي محمد بن موسى بن أيجل... وبين ما أنا أتخيل صبيحة ذلك اليوم الحزين في محروسة تيشيت يوم الأحد 12 رمضان 1123 الذى دَفنَ فيه الفتى العالم الفارس سيدي محمد بن الحاج الحسن أبوه علامة عصره وفريد زمانه الذي خطفه الموت وعمر 58 حجة كم استقبل من الأعيان من شيوخ القبائل والمشايخ الفضلاء معزين ومواسين وكيف تناقلت الركبان في هذه الصحراء المترامية الأطراف خبر وفاة أعلم علماء زمانه وأفقه أهل عصره...وهل طار الخبر إلى الأزهر الشريف وكيف استقبله هناك وكم سمع الابن المكلوم من المراثي شعرا ونثرا ومتى استأنف الدرس والفتيا وبينما أنا وسط تلك المشاعر فإذا بالشمس بازغة فلم تزاور عني لاذات اليمين ولاذات الشمال بل أضائت لي تاريخا مشرفا ومجدا تليدا أضعناه وأي مجد أضعنا فعدت إلى القوم الكرام الشرفاء متسائلا هل فيكم من يعرف مكان بيتات قومنا ولو قليلا؟
فقال بعضهم في الجنوب الشرقي للمدينة وقال بعضهم بل شرقي المسجد العتيق ورجح البعض أنهم كانوا في الجانب الشمالي فلما رأيتهم تنازعوا فيهم امرهم قلت سأقيم مركزاً يحمل اسم جدي وسأبني أو أشتري لقومي بنيانا يزورونه ولو مرة في العمر... رب يعينني ويمنحني من فصله خيراً كثيراً ويرزقني.