المدرسة الجمهورية: مضغة الأمة التي إن صلحت، صلحت الأمة كلها / محمد ولد مكحله

ثلاثاء, 12/06/2022 - 17:18

إن أقل ما يقال عن المدرسة الجمهورية أنها مشروع أمة كبير وكبير جدا، يعكس الرؤية الواضحة والثاقبة لدى فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، للمنطلق الحقيقي لتنمية البلد والنهوض بالأمة: إنها بحق الأرضية التي يجب أن يتأسس عليها جهد البناء الوطني الجاد. قد تختلف الدول والحكومات في تبني هذا النهج أو ذاك في تحقيق التنمية وترتيب الأولويات، لكن الاجماع يظل حاصلا بين البشر على أن التعليم هو المنطلق والأرضية الصلبة لكل مشروع تنموي، وبوابة رقي وازدهار المجتمعات. فيستحيل مطلقا، أقول مطلقا، أن يتحقق أي نمو اقتصادي أو سياسي او ثقافي، في أي بقعة، في ظل فشل النظام التعليمي. فالمدرسة ليست فقط مفتاح الرقي الفردي والاجتماعي، وضمان الانتقال من وضعية إلى أحسن منها، اقتصاديا وبالتالي اجتماعيا، بل أكثر من ذلك هي مضغة الأمة التي إن صلحت، صلحت الأمة كلها. فالمدرسة بمخرجاتها تتحكم في الإنتاج والعقليات، وهاذان هما مقوما التقدم ومقياسه. من هنا، حقيق بالمدرسة الجمهورية أن تكون، ليس فقط عنوانا بارزا في برنامج، بل هي البرنامج أو لا يكون. وبإطلاق مشروع المدرسة الجمهورية، يكون فخامة رئيس الجمهورية قد أتي بيت نهضة الأمة الموريتانية من بابه، وفتح الورشة التي بها وبها فقط، صلاح الشأن الوطني، السياسي والاقتصادي والاجتماعي. نرجو الله العلي القدير أن يكلل هذا المشروع بالنجاح، إذ بنجاحه سنشهد نهضة لا مثيل لها وتطورا حقيقيا لأننا بدأنا من حيث يجب أن نبدأ.

ولدرجة أهمية هذا المشروع، فقد حظي باهتمام واسع من لدن الشعب الموريتاني عامة، وبنقاش مستفيض من طرف النخبة الوطنية بمختلف مكوناتها ومشاربها ومستوياتها. ولا غرابة في أن يحتجز مثل هذا الموضوع عناية الجميع، لأنه وبكل بساطة يتعلق بالطفل الذي يملكه الجميع.

كمساهمة متواضعة في النقاش الدائر حول التعليم في بلادنا، ومن باب الاستئناس واستخلاص العبرة ليس إلا، أحكي هذه الحادثة التي كنت شاهدا عليها في فضاء من فضاءاتنا التعليمية.

ذات يوم من سنة 2000 كنا معشر الأساتذة بإحدى مؤسسات التعليم العالي عاكفين على مجريات مسابقة لاكتتاب بعض أساتذة التعليم الثانوي لصالح وزارة التهذيب الوطني، في تخصصات مختلفة (الرياضيات والفيزياء، التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية، الفلسفة . . .إلخ). كانت المؤسسات التعليمية الثانوية تعاني نقصا في الأساتذة وهي على أبواب افتتاح مدرسي يأتي مباشرة بعد تبني إصلاح جديد. الأساتذة الذين سيكتتبون بمسابقة سيتم تحويلهم مباشرة وعلى جناح الاستعجال إلى المؤسسات، دون المرور بأي مرحلة تكوينية. في تخصص الرياضيات والفيزياء تحديدا ـ وأستاذ الرياضيات المحترم الخليل يتذكر ذلك ـ حدث أن عدد المترشحين يساوي عدد المقاعد المطلوبة من طرف الوزارة (اثنان أو ثلاثة على ما أعتقد). في الكتابي، حصل أحد المتسابقين على 10 من عشرين في الفيزياء و07 من عشرين في الرياضيات. الناجحون في الكتابي مؤهلون لخوض شفهي في شكل مقابلة تقويمية أمام لجنة تحكيم المسابقة. قال الأساتذة إن المترشح الذي حصل على 07 من عشرين في الرياضيات ليس مؤهلا للمرحلة اللاحقة، وعليه فإن الوزارة ستحصل على مقعدين فقط من الثلاثة المطلوبة. طرحت القضية على ممثل الوزارة الذي ذهب بدوره يطلب رأيها في الموضوع. عاد إلينا حاملا الرأي النهائي والقرار الحاسم: يجب اعتبار ذلك المتسابق ناجحا وإلحاقه بزملائه لأن الوزارة بحاجة إلي أستاذ في الرياضيات ولا يمكن أن تخسر الاعتماد المالي الذي وفر لها! تم إلحاق ذلك الشخص بالناجحين رغم النتائج التي حصل عليها.

ما يستخلص من هذه الحالة التاريخية هو:

1 ـ أن هذا الشخص حول بالفعل إلى إحدى المؤسسات كأستاذ للرياضيات المرحلة الثانية. وأن أي أستاذ للرياضيات المرحلة الثانية يوضع تحت تصرف مؤسسة ما، يمكن لهذه الأخيرة أن تسند إليه أي قسم لتدريس مادة الرياضيات، بدءا من السنة الأولي إعدادية إلى السنة النهائية شعبة الرياضيات. تصوروا إذن لو أن المؤسسة التي حول إليها كانت بحاجة إلي أستاذ للسنة النهائية رياضيات، وأسندت إليه هذا الفصل! مصير تلاميذ السنة التحضيرية للباكالوريا رياضيات بين يدي “أستاذ” حصل على 07 من عشرين في مادة الرياضيات في مسابقة الأستاذية!

ـ إذا كان المهتمون بالمدرسة الموريتانية مجمعون على أن مستويات التلاميذ متدنية، فإن مرد ذلك، من بين أسباب أخرى، إلى مستويات بعض الطاقم التدريسي الذي هو بدوره نتاج مثل هذه الاكتتابات السريعة (أكسبرس)، وغير الموفقة بطبيعة الحال.

3 ـ أن كل دفعة من الأساتذة تخرجت عندنا شبيهة بعتمة الليل حيث كل الأبقار سوداء: فمثلا دفعة من 20 أستاذا في مادة ما، يتخرجون وكل واحد منهم يطلق عليه لقب أستاذ المادة كذا، دون استحضار أن واحدا من هذه الدفعة كان الأول بمعدل 16/20 مثلا، وواحد آخر كان الأخير بمعدل 10/20 في أحسن الأحوال. وما بين الطرفين معدلات ومستويات متفاوتة كذلك. فهل يستساغ أن نساوي في الاستخدام وإسناد المهام التدريسية بين هذا وذاك، بحيث يكون ما يمكن ان يسند إلي الأول يمكن ان يسند إلي الثاني؟

نرتب على ما سبق الاقتراحين التاليين:

ـ أن يكون توزيع أساتذة الدفعة الواحدة مبنيا علي رتب التخرج بحيث يسند إلى المتفوقين تدريس السنوات المتقدمة (أي النهائية من السلكين الأول والثاني). فلو أن الأستاذ يحول إلى المؤسسة ومعه ملف تخرجه الذي يتضمن ترتيبه ضمن مجموعته، لأتاح ذلك للمؤسسة القادم إليها إسناده ما يناسب كفاءته من الأقسام التربوية.

ـ أن يعمد، داخل المؤسسات، إلى استحداث أبروفايل أستاذ رئيسي professeur principal يكون منسقا ومؤطرا لأقسام تربوية معينة، على أن يتم اختياره على أساسي رتبة التخرج والأقدمية. وهكذا يكون الترتيب الاستحقاقي في الدفعات المتخرجة أو المكتتبة حاضرا ومحددا طيلة المسار المهني.

ملاحظة: ذكر الشعبة الرياضية ليس وراءه سوى الحرص على تأسيس هذا الرأي على حادثة حصلت بالفعل، صادف أن تعلقت بهذه الشعبة بالذات. كما يجب التنبيه إلى أن هذه الطريقة في الاكتتاب أصبحت من الماضي بعد استحداث اللجنة الوطنية للمسابقات، غير أن الاكتتابات السابقة على اللجنة من قبيل هذه الحالة، مازالت مخلفاتها تلحق الأضرار بالمستويات الدراسية.

المدرسة الجمهورية: مضغة الأمة التي إن صلحت، صلحت الأمة كلها

محمد ولد مكحله