ذكرى راحل كبير

أربعاء, 05/12/2021 - 10:31

الحقيقة / نواكشوط / مرت علينا اليوم ذكرى راحل عزيز على نفوسنا، هو أستاذنا الكبير: محفوظ ولد لمرابط، فقبل سبع سنوات كانت وفاته رحمه الله تعالى ورحيله الفاجع، وبهذه المناسبة أنشر كلمةأو دمعة جرت من فؤاد جريح في يوم حزين بعد وفاته بنحو أربعة أيام، ونص الكلمة:

سيكتب التاريخ أن السبت الحادي عشر مايو ٢٠١٣ يوم فقدت فيه الساحة القضائية والعلمية ركنا من أركانها، وأن الموت غيب فيه رجلا يشكل نموذجا للقاضي الموريتاني الكفء، بل إن وجود هذا الرجل في تاريخ القضاء الموريتاني يشكل محطة وعنوان حقبة فيه، لو قدر لهذا التاريخ أن يكتب كتابة علمية رصينة تعتمد منهج التحقيب وتنصف كل النماذج.
وأنا أعترف بأنني لست خير من يتحدث عن فقيدنا المرحوم: محفوظ ولد لمرابط، ولكنني أدعي وأعتز بأنني تتلمذت على يديه واستفدت بعلمه وخبرته، وقايست منهجيته وطريقته ونوعية اهتماماته بآخرين داخل البلاد وخارجها فأدركت قيمة الرجل وعلو مكانته.
لقد كان الفقيد حافظا سريع الاستحضار لمتون الفقه وأصوله وقواعده، فهو مولع شديد الإعجاب بدقة تعبير خليل في مختصره، وبطريقته في جمع المعاني الكثيرة والإيماء إليها بالألفاظ الموجزة الدالة، وقد امتزج هذا المختصر بنفس الفقيد وأخيلته فاصطبغ به أسلوبه في مذكراته وأحكامه وحتى في خطاباته الرسمية، وهو حافظ للمختصر مدرك لدقائقه مطلع على مختلف شروحه، ويفضل بعضها على بعض، وقد سمعته مرة ينوه بحسن تعليل الحطاب والبناني وجودة درايتيهما، وما زلت أكتشف صدق هذه الملاحظة وأعجب من دقتها، وقد أوردها هو عرضا على البديهة.
والفقيد يحفظ مرتقى الوصول لابن عاصم حفظا متقنا، مع اطلاعه على مختلف المصادر والمراجع في أصول الفقه قديمها وحديثها، فهو يقرأ المصادر الأصولية المرتبطة بجمع الجوامع كشرح المحلي وحاشية البناني ومراقي السعود وشرحه إلى أن يصل إلى محمد أبي زهرة وعبد الوهاب خلاف وأضرابهما، ولن أنسى صورة غلاف كتاب: المناهج الأصولية لعلامة الناصرة: فتحي الدريني، وهو ضمن كتب مصفوفة مقربة في بيت الفقيد ليلة وفاته، مما يعني أنه كان مهتما به في أواخر أيامه.
والفقيد خبير بقواعد الفقه المالكي، يحفظ منظومة المجاز الواضح للعلامة: محمد يحيى الولاتي، وهي أجمع المنظومات في القواعد الفقهية وأكثرها تحريرا، وله اهتمام بفروق القرافي وتحرير الإشكالات عند مضايق النظر بين القرافي وابن الشاط، ويعجبه ذكاء الرجلين ودقة مأ خذ كل منهما، وقد سمعته يحدث أنه ذات ليلة أصيب بأرق نتيجة مضاعفات صحية فتناول كتاب الفروق للقرافي ووقعت يده على الفرق الرابع والعشرين مع المائتين، وهو حول الفرق بين قاعدة الحكم وقاعدة الفتوى، وقد فرق فيه القرافي بينهما بأن الحكم كالنص الخاص من الله تعالى في عين النازلة وأن الفتوى كالنص الخاص، وهو ما اعترضه ابن الشاط بقوة قائلا: لا كلام أشد فسادا من كلامه هذا، وهنا انبرى فقيدنا لفض الاشتباك بين سميريْه من وراء القرون فنسي همومه وكشف ما به من ضر، وهي قصة تذكرني بقول القائل:
إذا جلت فكرا في العلوم عويصها
وما دت بي الأفراح كل مميد
تصاغرت الدنيا لدي وأهلها
وجئت بما يشفي غليل مريدي
وقد أمدته معرفته بالفروع بفهم عميق للقواعد ومدى انطباقها على جزئياتها وبالنظائر والمستثنيات، ولا أزال أذكر درسا له تعرض فيه للفرق بين الثبوت والحكم، وبين رأي القائلين باتحادهما والقائلين بتغايرهما، وبيّن أن الثبوت لا يترتب عليه أثر إن لم يُبن عليه حكم، وهو أمر معروف، غير أن ما انفرد أستاذنا بالتنبيه عليه هو أنه يستثنى من ذلك خيار النقيصة، واستشهد بقول خليل: (ودخلت "السلعة المردودة بعيب" في ضمان البائع إن رضي بالقبض أو ثبت عند حاكم وإن لم يحكم به) وهو نص صريح في الموضوع، وقد غاب عن شراح المنهج كالمنجور والسجلماسي وابن أحمد زيدان، رغم اهتمامهم بنصوص المختصر، وهو حاضر في بديهة أستاذنا لا يحتاج فيه إلى تأمل.
وللفقيد اطلاع على مختلف العلوم الشرعية كأدلة العقائد والتفسير، فهو حافظ للقرآن الكريم، وقد أخذ عن عالم التفسير المغربي الشهير الشيخ: المكي الناصري، وهو مهتم بعلمي النحو والصرف، ويتتبع التراكيب والجمل المستحدثة فيبين صحتها أو فسادها، وينبه على الأخطاء الناتجة عن الترجمة المعيبة، ولا يكتب إلا كلاما معربا بعيدا من اللحن، وهو من القانونيين القلائل الذين يهتمون بإشكالات الثقافة والحضارة، وهو على دراية ومعرفة بالتاريخ الإسلامي رجالا وأحداثا، وتاريخ البلد وأنساب قبائله قديما وحديثا.
والفقيد إلى جانب معارفه الشرعية واللغوية والتاريخية والفكرية الأصيلة أحد أعلم الناس بأصول الفكر القانوني الحديث، وهو عالم متمكن في عدة فروع من القانون، فهو عالم بالقانون الجنائي بقسميه: العام والخاص، يحدثك عن عناصر كل جريمة وأركانها وشروط وموانع العقاب عليها، وهو عالم بالقانون المدني: مقدمته ومبادئه ونظريته العامة وعقوده المسماة المختلفة، أما قوانين الشكل فلا يشق له فيها غبار، وأنا أعتقد أنه فاق فيها أستاذيه المشهورين: علامة الشام: مأمون الكزبري؛ وموسوعة المغرب: إدريس العلوي العبدلاوي، فلقد قرأت كتابهما وكتابات ءاخرين غيرهما في مصر والمغرب فلم أجد فيها عمق ولادقة ما يكتبه ويشرحه فقيدنا، وقد تبين لي أنه يكتب على بياض كما يقال، وأن ما يدرّسه ويمليه هو نتاج فكره وتأملاته، وأنه قد أحاط بالفقه الإجرائي وتسنم ذروته فأصبح يورد عصارته خالصة سهلة بأحسن ترتيب، لا يحتاج إلى نقل ولا اقتباس، وأن مذكراته هي خلاصات مركزة لقراءات مطولة.
ورغم علم الفقيد بالقوانين الوضعية فإنه يكرهها ولا يحب تحكيمها، ويتحدث عن مفكريها؛ لكن دون رضى، أتذكر انه حدثنا مرة عن نظرية المرفق العام عند العميد: ديجي، فكان يتسخط كلما ذكر اسمه، وقد قام بجهد مشكور في عدم تحكميها واستبدال الفقه الإسلامي بها، نسأل من لا يضيع عمل عامل ان يتقبل منه.
وهو لا يهتم إلا بالقوانين الإجرائية، ويستشهد بمقولة الفيلسوف الألماني الشهير: اهرنغ: (الشكل توأم الحرية؛ لأنه عدو التحكم) وهذا الاهتمام يدل على تبصره وحسن اختياره، ذلك أن الفقه الإسلامي متفوق على القوانين الوضعية في الجوانب الموضوعية، وقد كان متفوقا عليها في الجوانب الإجرائية أيضا قبل أن يسود التقليد ويتخلف الاجتهاد الفقهي عن مسايرة تطور العلاقات الاجتماعية وسيرورة البنى والنظم الإدارية في المجتمع الحديث، فلم يكن هناك بد من الاقتباس من التشريعات الإجرائية الأجنبية؛ بوصفها حكمة تنظيمية، (والحكمة ضالة المؤمن) هذا بعد تهذيبها وملاءمتها مع روح الشرع وتنقيتها مما قد يعلق بها من رواسب المنبت، وهو جهد بدأه أحد علماء تونس، وهو الشيخ: عبد العزيز جعيط في كتابه: الطرق المرضية في الإجراءات الشرعية، وتبعه غيره، وقد بلغ فيه الفقيد شأوا بعيدا، وأعتقد اننا معاشر طلابه لو جمعنا ما بأيدينا من مذكراته، وما في أذهاننا من إفاداته لحصلنا من ذلك على فقه كثير لا يهندي إليه غيره.
والفقيد ناقد بصير بكتب القانون يدرك بألمعيته وجودة قريحته مدى وضوح الفكرة العلمية في أذهان مؤلفيها من خلال الأسلوب وطريقة العرض، ويرشد طلبته إلى جياد الكتب وينوه بها، ولا ينوه بكتاب وتقرأه إلا وجدته كما قال، أتذكرأنه كان يرشدنا إلى أن نقرأ في القانون الجنائي والإجراءات الجنائية كتب الدكتور: رؤوف عبيد، وكنت أقرأ لغيره، فاهتممت بكتبه، وقد أدركت الفرق بنفسي، ويعلم الله أنني كنت أذكره وأدعو له كلما طالعت كتبه، ووقفت على آبدة في: مبادئ التشريع العقابي المصري، أو دقيقة في: ضوابط تسببب الأحكام الجنائية، أو نكتة في: جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، وكان يرشدنا إلى ان نقرأ في القانون والقضاء الإداريين كتابات أستاذه الدكتور: طعيمة الجرف، فظفرت بكتابه حول خضوع الدولة للقانون، فعرفت أن استاذي ملهم مسدد.
وللفقيد عناية خاصة بنصوص القانون الموريتاني بمختلف درجاتها من الدستور إلى التعميمات ومذكرات العمل التي تهم أو تفيد في العمل القضائي، هذا فضلا عن التشريعات والمراسيم والمقررات التي كانت نافذة أيام الاستعمار ولم تلغ فهو يهتم بها، والنسخة العربية الوحيدة الموجودة من مرسوم تنظيم الملكية العقارية في إفريقيا الغربية الفرنسية مستنسخة من نسخته وعليها خطه وتعليقاته ومقارناته، وقانون نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة والمرسوم المطبق له الذي كان نافذا أيام الاستعمار، والمرسوم المنظم للتوثيق الذي تخضع لأحكامه كل الوثائق التي سبقت ١٩٩٨ تاريخ صدور النظام الأساسي للموثقين النافذ، لا توجد هذه النصوص في حدود علمي واطلاعي إلا عند الفقيد، وترتسم في ذهني الآن صورة أوراق من الجريدة الرسمية شاهدتها بحوزته، بعضها يحتوي على مدونة المعادن السابقة، وبعضها يحتوي على مرسوم مطبق لها يتعلق بتنظيم استغلال المناجم والمقالع، وكلا النصين مطرز بخط الفقيد، وعليه تعليقاته وملاحظاته، فتعجبت من شمول اهتمامه وشدة حرصه، إنني أعتبر وفاته يتما لنصوصنا القانونية عامة وضياعا لجزء كبير منها.
وللفقيد أسلوب مميز في تحرير الأحكام نابع من خبرته وسعة باعه في مختلف العلوم، إضافة إلى حدة فهمه وحسن تصوره للوقائع التي يريد تطبيق القانون عليها، وأنا لم أطلع إلا على عدد محدود من أحكامه؛ لكنني أشهد أن ما اطلعت عليه منها كان مبهرا، وينم عن بذل مجهود لا مزيد عليه، فهو يقدم الوقائع ويسردها سردا دقيقا أمينا بعيدا من التشويه لا يبخس فيه طرفا حجة، ثم يبدأ في الرد على الدعاوى والدفوع ويعلق على وسائل الإثبات المقدمة ويقدر قيمتها ويبين لم قبل ولم رفض؟ بما قد تتفق معه وقد تختلف، لكنه سينتزع إعجابك في كلا الحالين، أذكر حكما له في قضية فيها طعن بالتزوير في وثائق قديمة العهد، ومسطرة التحقيق في التزوير معقدة كما هو معلوم، وتعتمد على القرائن التي هي استخلاص مجهول من معلوم، ولا زلت أذكر كيف استخلص قضاءه واقتنص المجهول من المعلوم ببراعة، كما أنه ناولني ذات مرة حكما كان قد أصدره فذهبت لأقرأه وعدت إليه معربا عن إعجابي به، فقال لي: لقد كنت أغرق في عملي. وصدق، فهو حكم متقن مرصوص ضافي الأدلة والأسباب، وأنا اعتبر قراءة احكامه والاطلاع عليها واجبا مهنيا ملزما لكل قضاة موريتانيا، فهي كنوز معرفية مهنية عالية القيمة.
أما منهج الفقيد في التدريس وتعامله مع طلابه فهو منهج فريد، يتمثل في تقديم مادة علمية رصينة يشعر الطالب عند تلقيها بما يسميه أبو إسحاق الشاطبي نشوة الاستيلاء على المعرفة، ويدرك أنه ظفر بالكنه ووصل إلى العمق ويجد برد العلم والصواب في حلقه المعرفي، كما قال أبو العتاهية:
تمسك بالصواب ولا تدعه
فإنك كلما ذقت الصوابا
وجدت له على اللهوات بردا
كبرد الماء حين صفا وطابا
وهو ناصح لطلابه ومن تمام نصحه لهم أنه لا يحصرهم فيما يقدمه، بل يرشدهم ويوجههم إلى مطالعة الكتب في المادة المدروسة ويلح عليهم قائلا: لا تجيبوني بما أمليت في المذكرة؛ لأن ذلك سيكون حسن قضاء، وأنا لم اقدمه لكم دينا لتردوه إلي، إنني أريد إضافات وملاحظات وتصرفا من الطالب في إجابته، ويجد الطلاب الذين امتثلوا أوامره مصداق قوله في نتائجهم، وهو لا يختبر الطالب في حفظه المجرد كما لا يحرمه من استغلال محفوظاته، فيقدم أسئلة تحمل معنى دقيقا يدركه الففهم، ويخيل للحافظ ان له نوع ارتباط بما حفظه فيكتب ما عنده، وهذا المنهج التربوي الفريد يزينه تواضع جم ودعابة وبشاشة لا تفارق محياه رحمه الله.
إن مثل الفقيد محفوظ ولد لمرابط لا يجوز ان يرحل دون أن يخلّد ذكره، ولا يصح أن يُفرّط في تاريخه وإرثه، لذلك فإنني أدعو طلابه ومحبيه إلى جمع مذكراته، وأدعو أسرته وذويه إلى إخراج ما تركه من مؤلفات، فقد كان يحدثنا عن كتاب في وسائل الإثبات، وأنه أوشك على إنهائه، كما كان يحدثنا عن عزمه وضع شرح لقانون الإجراءات المدنية، كما أدعوهم إلى جمع أقضيته وأحكامه وترتيبها وإخراجها في أقرب وقت ممكن، وأدعو زملائي في جمعية قضاة موريتانيا إلى إفراده بعدد خاص من مجلتهم: رسالة القضاء، يستكتب فيه من عايشوه عن قرب وعملوا إلى جنبه، كما أدعوا إلى إطلاق اسمه على إحدى قاعات المحكمة العليا وأحد مدرجات المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء، وتأسيس مكتبة للمطالعة العامة تحمل اسمه، وذلك أقل القليل في حقه.
رحم الله فقيد العلم والقضاء وأستاذ الأجيال محفوظ ولد لمرابط وأسكنه فسيح جناته، وبارك في ذريته وعقبه من بعده، وجمعنا به في مستقر رحمته.
إنا لله وإنا إليه راجعون..
عطا محمد أحمد