ولد اليسع: نحن دعاة موريتانيا أخرى (مقابلة)

أربعاء, 06/19/2019 - 21:36

جمال ولد اليسع، إبن المجتمع الأرستقراطي الخارج عن طوع التقاليد، الثائر على النمط المحافظ لأبناء المحاربين، المتمرد على ثقافة الإقطاع و الاستعباد و النبل الطيني.. صاحب الفكر المناويء للقهر و التحجر، و المبدأ الراسخ كهضاب كديتْ الجل.. عارض الأنظمة القمعية، و ناهض الاستبداد السياسي و قاوم القهر المجتمعي و التطرف الديني، و نافح عن الإنسان، مهما كان جنسه أو لونه أو معتقده.

المثقف العضوي الذي لا يتكلم كثيراً، قرر أن يفتح صدره لمدونة “شى فلان”، فكانت هذه المقابلة الجامعة المانعة، التي تمت ترجمتها حصريا لتقدمي، من اللغة الفرنسية، التي يتقن ولد اليسع تركيب مكعباتها.

ترجمة: محمد فال ولد سيدي ميلة

شي افلان: خلال شهر مارس 2015، وبعد سنوات من الصمت، خصصتم لنا لقاءً شهيرا. هل تؤكدون اليوم ما صرحتم لنا به حينذاك، أم أنكم تغيرتم؟ إذا كان الجواب بـ”نعم”، فحول أي من القضايا المثارة تغير رأيكم؟
جمال ولد اليسع: إني أؤكد كل ما صرحت به حينذاك.

شي افلان: قبل أيام قليلة من عمليات التصويت في الانتخابات الرئاسية، أي المرشحين أقرب إليكم من خلال برنامجه وتوجيهاته لمناصريه؟
جمال ولد اليسع: بطبيعة الحال فإن أقربهم إليّ هم بيرام الداه اعبيد، حامدُ بابا كنْ، ومحمد ولد مولود. هذا الأخير يمتلك قيمة مضافة تتمثل في قدرته على الثبات. المرشحان الأولان يمثلان القطيعة، دون لبس، مع الهيمنة العرقية-القبلية. فضلا عن كونها يعكسان الغالبية الاجتماعية التي تعدّ مستقبلاً للديمقراطية في موريتانيا. في الوقت الراهن تطمِسُ الحالةُ المدنية، عن وعي، مثل هذا التطور. فالعديد من الناخبين ما يزالون يتعرضون للتمييز الإداري، لكن العدد سينتصر على الغش، وهو أمر لا مَنـْجَى منه.

شي افلان: المتتبعون ينتظرونكم إلى جانب بيرام الداه اعبيد.
جمال ولد اليسع: بيرام صديق ورفيق كفاح، لكن حلفاءه، الموالين للسفاح صدام حسين، ليسوا كذلك. وسوف ألتقي به، لا شك، بُعيد الاقتراع لنتابع، معًا، هدم القطب المحافظ.

شي افلان: وبالنسبة لسيدي محمد ولد بوبكر؟
جمال ولد اليسع: حياته السياسية تتشابك مع عهد ولد الطايع الذي نجا منه بكل مرونة. لكنه، على كل حال، خدم تلك الدكتاتورية الدامية إلى حين سقوطها سنة 2005. وكقاعدة عامة، فإن الفاعلين الذين لم يخاطروا بأي شيء خلال مسارهم العام ليسوا خليقين بثقتي. إنه يتميز، عكس منافسيه، بالاصطفاف الثابت مع إكراهات الاحتراس. أما محمد ولد مولود وحامدُ بابا كنْ وبيرام الداه اعبيد فقد تعرضوا، في فترة مّا من كفاحهم، للإقصاء والوصم أو السجن. بالنسبة لمحمد ولد محمد الشيخ الغزواني فقد كان فاعلا في خلاص البلاد شهر أغشت 2005، مع محمد ولد عبد العزيز وكان بإمكانهما أن يهلكا. والحقيقة أن الموريتانيين مدينون لهما بالامتنان لفترة طويلة. أما مع سيدي محمد ولد بوبكر، فإن الخرَفَ وجد مرشحه الفخري.

شي افلان: وماذا عن محمد ولد محمد الشيخ الغزواني؟
جمال ولد اليسع: إنه فاعل من نظام سحيق عكسا للثلاثة المذكورين أعلاه. إن تنشئته الاجتماعية تهيؤه للعمل على التوافق أكثر مما تهيؤه للجرأة. بيد أن ولد الغزواني يمكنه أن يفاجئ إذا كان يعرف ردة الفعل بكل صرامة خلال الفصل الأول من مأموريته. لابد له، إذن، من أغلبية جديدة في البرلمان، ومن أن يتخلص من ثلثيْ فريق حملته الحالي. إن عليه، بالأساس، أن يقتنع أنه رئيس للجمهورية وأن يحكم انطلاقا من ذلك دون أن يقبل أية إملاءات.

شي افلان: وبرنامجه؟
جمال ولد اليسع: قرأت مستند نوايا شامل تقريبا من حيث الملاحظات. وحدها هيئة امتصاص التفاوتات الموروثة تتضمن تقييما للتكلفة بـ 20 مليار أوقية. ويتوجب أن يكون ذلك محل ترحاب. مع أن جوهر المستند يبدو أنه تهرب من ظروف الإنجازات والتركيبات المالية والمُدد والمُهَل، إلخ. في ما يخص الرهان المركزي للعنصرية والتصالح والحاجة إلى نشر حقيقة الجرائم الجماعية المرتكبة من 1986 إلى غاية 1991 فإن النص يفرط في الاختزال والإطناب.

بغية تناول إعادة تأهيل المواطنة، عمَدَ أصحابُ المقالة، كما هي العادة، إلى التشويش المهدّئ. رغم أن هذا الموضوع الحساس سيظل يلاحقنا مدى الحياة ويظل يسمم مستقبلنا المشترك ما دمنا نجهد أنفسنا في إسكاته. لا يمكنكم أن “تمسخوا ثقافيا”، وتـُـرَحّلوا، وتقتلوا، دون عقاب، وفي نفس الوقت تفرضون على الضحايا والناجين ثلاثية “الأمر القضائي” بالانتظار والعفو والصمت. إذا كنتم لا تريدون المقاضاة، على الأقل أنشروا الحقيقة. الكثير من مواطنينا البيظان ما يزالون يعتقدون أن السود، المسلحين سنة 1989 من قبل السينغال والصهيونية الدولية، حاولوا إبادتهم. لقد حان وقت إبداء الحقيقة لكي تكتسي قيمة تربوية.

المرشح ولد الغزواني يجهل أو يبدو أنه يتهرب من كون موريتانيا وصلت درجة عالية من التفكك. ولم تعد ثمة إمكانية لاستمرارها في المعاناة من هاجس الترقيع والرتق وأنصاف الحلول. لابد لها من علاج ناجع وإصلاح متين في اتجاه المساواة في الحقوق والتسيير الصارم للدولة والنُّظـُـم الأيكولوجية. البلاد لم تعد بحاجة إلى رجل صَبور ولطيف وعطوف، لكنها بحاجة إلى زعيم جريء وفي عجلة من أمره.

شي افلان: البعض يرى في بيرام الداه اعبيد وحامدُ بابا كنْ مرشحيْن عرقيين بتوجهان إلى طائفتيهما. ماذا ترون؟
جمال ولد اليسع: ليسا أكثر عرقية من الآخرين. العرقية، كابراً عن كابر، تعني الاحتكار المتواصل للسلطة والمنشأ الباطني الحصري لنقلها. فمنذ ميلاد موريتانيا، كل الرؤساء يُكتتبون ضمن الأقلية العربية-البربرية. وبدوري أعيد إليكم السؤال: هل يعتبر هذا، حسب اعتقادكم، معيارا لما هو طبيعي؟ إذن، من هو العرقي، هنا؟

شي افلان: كيف ترد على من يتهمونك بنشر التفرقة وتشجيع التحريض ضد العرب؟
جمال ولد اليسع: كما تعلمون، فإن الغضب ينزع سلاح الخوف. نحن، دعاة “موريتانيا أخرى”، نقاسي الذعر أمام القوة الغاشمة للشبكة التي تقبض على أسلحة الحرب والمال، وتشمئز من التقاسم، وتتظاهر بالعجرفة أمام أقل قدر من الاحتجاج، وتصرخ بالحرب الأهلية عندما تسمع عبارة “حقوق الانسان”.

إننا نطالب فقط بالاحترام الأساسي للإنسان، ولا نستعمل، في سبيل ذلك، غير الأفكار. نحن لا ندعو إلى قتل الناس عكساً لمئات الدعاة الذين تحميهم الجمهورية الإسلامية الموريتانية. لن تعثروا لنا على أثر في هجوم إرهابي أو جريمة دولة. إذا كنتم تشكون في ذلك فإنني أدعوكم إلى الإحصاءات المأتمية، فسوف تفصل في أمرنا على عجل.

على كل حال، موريتانيا لم تعد بمنأى عن ثورة تمكن مقارنتها بما حدث في السودان والجزائر وبوركينافاسو. إن انتفاضة الذين لا يملكون الكثير مما يخسرون تعدّ احتمالا مرتقباً يُخشى من وقوعه. فالعروبة والتدين لا ينقذان من مطلب العدالة.

شي افلان: أي موضوع يبدو لكم أنه تم إهماله في البرامج المتنافسة؟
جمال ولد اليسع: أسجل الاهتمام القليل بالإشكالية البيئية خاصة حماية الشجرة وحماية الحيوانات الأولية. كما تعلمون، فإن طبيعة معطاء تجعل المسلكيات طريّة، كما هو شأن الموسيقى تقريبا. والغطاء النباتي يعزز منسوب الأمطار، غير أن الإجهاد في طلب الماء يؤدي إلى هجرات الذعر التي تعتبر مصدر الحروب من أجل التحكم في المصادر غير المتجددة. ومن ثم فإن النظام البيئي مرتبط بالأمن. تصوروا أن شركاء أوربيين يدفعون لنا من أجل حماية وسطنا الطبيعي فنأخذ المصاريف ونمنح لبائعي الفحم الترخيص لقطع الجذوع الخضراء خاصة في العصابة وضواحي كنكوصه بين قرى المزيت وتاشوط حتى تناها وابلا اجميل. النهب يتم منذ سنتين على الأقل في المنطقة المذكورة. هناك شاحنات جرارة تحمل هذه البضاعة في وضح النهار حتى نواكشوط. ويقوم حرس الغابات بأخذ ما يبتزون منها مقابل لفت الأنظار عن العملية.

الأمر الثاني الذي أغفله المستند، وهو يُعْزَى لحصيلة ولد عبد العزيز، يتعلق بتمويل المشاريع الكبيرة المصمم على الاقتطاع من موارد الدولة على طريقة نيكولاي اتشاوسيسكو. بينما أغلب الاقتصاديات الناشئة تـُـبنى اليوم بالقرض الاستثماري والشراكة بين القطاعين العام والخاص، من خلال منح احتكارات أو إعفاءات أو تنازلات على فترة طويلة لتخفيف وطأتها. إن التشبث بـ”السيادة” لدرجة المخاطرة بالبقاء في حالة بؤس، يبدو لي سذاجة مأساوية. أخيرا، يبدو لي أنه من الشرف بمكان أن نتوقف عن الكذب على السكان حول الثروات المفترضة للبلاد. فموريتانيا، موضوعيا، فقيرة وغير مأهولة، لكنها توجد في تقاطع المصالح الاستراتيجية. وإن ميزتها تكمن في هذه المعادلة.

شي افلان: بحسب اعتقادك، ما هو التحدي المستعجل أكثر بالنسبة للرئيس المنتخب؟
جمال ولد اليسع: إشكالية التطرف الديني توجد في صلب الاستفهام حول استقرار موريتانيا. وبسبب الجبن والمزايدة مع الحركات المتعصبة، ترك النظام القائم خطاب الكراهية والتأثيم يزدهر دون خطاب مضاد ودون رد أيديولوجي.

إن المجتمع الذي كان، حتى الأمس القريب، غنيا بتنوعه الثقافي، انغرست قدماه، بشكل لا هوادة فيه، في الرؤية السلفية الأحادية. الناس يتداوَوْنَ بالابتهال وبالريق وبالماء المبارك، وبعضهم يحلم بالقهقرة إلى القرن السابع، وبدلا من العمل بأيديهم أو البحث عن علم تطبيقي، تجدهم يُصَلّون، ليلَ نهار، من أجل أن يسقط عليهم الذهب والخبز من السماء. لا أحد يهتم بغير الإعداد لمُقامه في الآخرة، فالموت أصبح، بالنسبة لهم، هو غاية الحياة. قبل 20 أو 30 سنة كان المسلمون الموريتانيون الرصينون يقدّرون الرقص والأغاني الاحتفالية والضحك والبهجة، أما اليوم فإنهم حَزانى، مكتئبون، منكسرو الأنفس. الكثير منهم قلَبَ ظهر المجن للحياة الدنيوية. بلادنا تصدّر اليوم الظلامية وتطبق، ضمن معاييرها، أهم برامج متعصبي الجهاد. ومما يثير السخرية حقا أن تشارك قواتنا المسلحة في مجموعة الـ5 الساحلية بينما المادة 306 المعدّلة من قانوننا الجنائي تماثل تماما تشريع داعش. إننا، لا شك، نمثل واحدة من البلدان القليلة التي تزعم إحدى مواد قانونها الدفاع عن الله والرسل وحتى الملائكة. لابد من جرعة مقدسة من الذرائع!. أدعو إلى إعادة قراءة هذه الفقرة الفظة حيث التائب (المرجع السحيق لكل الأديان التوحيدية) يُمنع من توبته. بيد أنني آسَفُ، هنا، للسذاجة الانتحارية لحلفائنا في الغرب الذين يتركون أنفسهم ينخدعون، فينا، بدجل “محاربة التطرف”، وأسطورة “دعم دولة القانون”، والبقرة الحلوب لـ”تعزيز القدرات”، وباقي خدع الافتراس. إنهم يمنحون التأشيرات (شنغن وغيرها) لمعتنقين، خيّري النهج، سيذهبون إليهم لبث سموم التفرقة والعنف. الأدهى من ذلك، أنه من بين الرسميين في بلادنا عدد من محاوري الغرب الذين ينفرون، فطريًا، من نمط المجتمع المنفتح حيث تضمن الدولة حرية الضمير والتعبير والمعتقد ومساواة النوع. وبانتهازية غادرة يأخذون فلوس الكفار ويبصقون على قيّمهم. فهم يشجبون مذبحة صحيفة “شرلي أبدو”، ومع ذلك يسُنّون المصطلحات التشريعية والحجج التي تضغط على الزناد. إن الرئيس القادم مطالب بالعمل ضد هذه الازدواجية القاتلة.

شي افلان: حسب اعتقادكم، ماذا يعني أن تكون مسلما، إذا ما استثنينا العقيدة؟
جمال ولد اليسع: لا أعرف. أطلبوا مني أن أصف لكم رجلا عادلا: إنه يحيط نفسه بأفعال الخير، يهب ويخدم في سريرته، يدافع عن غريب الأوطان، يعرف كيف يتسامح مع الاختلاف، ويقف شامخا في وجه الظلم. وحدها الأفعال تصدّق الإيمان. إذا فقدتم رقة الإحساس في إنسانيتكم، تفقدون إيمانكم بالله. بمعنى أنني أكرر أنكم إن تكونوا مؤمنين صلحاء أو طلحاء فذلك لا يعني إلاّكم. وأنا لا ألقي بالا لتفانيكم في العبادة أو إلحادكم إذا كنتم صدوقين، تحترمون الآخر، وتقدمون العمل المتفق عليه أو تجلبون قيمة إضافية لما يتطلبه بناء مستقبلكم.

شي افلان: إذن ما زلتم تتبنون مطلب العلمانية. ما فائدة هذا المفهوم؟
جمال ولد اليسع: العلمانية تظل، إلى اليوم، نموذج المدينة الوحيد الذي يُعَبَّر فيه عن الانتماء للدين بكل إخلاص دون ضغوط أو افتراء. في بلاد علمانية، أي في نمط من الحكامة المنشغلة، ليس بإدخالكم الجنة، لكن بتمكينكم فقط من حياة لائقة، لا أحد يفتش، وبالتالي لا أحد يعاقب صدقية إيمانكم. علاقتكم بالله تنتمي إلى المجال الحميمي. لديكم إمكانية أن تـُسْفِروا أو لا تسفروا عن وجه خياراتكم الدينية أو اللاّ أدَرية لأنه لا أحد سيتحسس شأنكم أو يرغمكم. من وجهة نظري، فإن المسلم الجدير بالثقة يعيش في مكان ما من الغرب في بلدة متحررة في طقوسها.

شي افلان: لماذا لم تنشئ حزبا يدافع عن مثل هذه الأفكار؟
جمال ولد اليسع: ليس لأنني لم أحاول. فموريتانيا تتسامح مع روابط إسلامية وقومية، لكنها ترفض مشروعا زمنيا. حركة “ضمير ومقاومة” محظورة من اللعبة السياسية وحتى من المجتمع المدني.

ومع أن الحركة خلوٌ من الضحايا البشرية، فإنه ينظر إلينا كسفاحين خطرين

تقدمي