الجغرافيا الملعونة: موريتانيا على طريق مخدرات العالم

ثلاثاء, 05/06/2025 - 09:23

ملف المخدرات في موريتانيا ليس ملفًا طارئًا أو مستجَدًا، بل هو ورم قديم تم تغطيته بضمادات سياسية وأمنية متآكلة، ما سمح له بالتحول من ظاهرة محدودة إلى شبكة دولية تمر عبر أراضينا بكل هدوء وسرية. في هذا السياق، لا يمكن قراءة هذا الملف دون تفكيك البُعد الجغرافي الذي جعل من موريتانيا واحدة من أهم نقاط العبور للمخدرات القادمة من المغرب، ومن أمريكا اللاتينية، مرورًا بالصحراء الكبرى، ووصولًا إلى أوروبا والعالم العربي.

أولًا: الجغرافيا كعنصر تيسير للعبور

تمتلك موريتانيا حدودًا طويلة ومفتوحة مع المغرب، الجزائر، ومالي، فضلًا عن شريط ساحلي طويل مطل على المحيط الأطلسي، وهي جغرافيا مثالية لشبكات التهريب العابر للدول، خاصة في ظل ضعف التغطية الأمنية وغياب البنية التحتية المراقبة. فالمخدرات المغربية، ولا سيما القنب الهندي، تجد طريقها عبر الصحراء الموريتانية نحو أسواق الجزائر وليبيا وحتى الخليج العربي. أما كوكايين أمريكا اللاتينية، فغالبًا ما يصل إلى الشواطئ الموريتانية عبر رحلات بحرية منظمة، ومنها يُنقل جوًا أو برًا إلى أوروبا.

ثانيًا: موريتانيا ليست سوقًا… بل معبرًا

من المهم أن نُفرق هنا: موريتانيا ليست مركزًا لاستهلاك المخدرات ولا سوقًا رئيسية لترويجها داخليًا. بل هي منطقة عبور استراتيجية، بفضل موقعها الفاصل بين شمال القارة وجنوبها، وبين الأطلسي وباقي الصحراء. إلا أن هذا الدور لا يُقلل من خطورة التورط المحلي في تسهيل هذه العمليات، إما بالتواطؤ أو بالصمت، وهو ما يخلق مناخًا يسمح بازدهار النشاط المافيوي دون مقاومة جدية.

ثالثًا: البذخ والثراء الفاحش كمؤشرات غسل أموال

المظهر الاجتماعي في العاصمة نواكشوط وبعض المدن الأخرى يكشف عن طفرة مالية غير مفسرة، من سيارات فارهة، إلى فيلات فخمة، إلى طبقات اجتماعية صاعدة من العدم. كل هذا وسط اقتصاد هش، لا يُنتج ما يبرر هذه الطفرات. بل إن أبسط الناس باتوا يتساءلون: من أين لهؤلاء كل هذا؟ الجواب الذي يتهرب منه الجميع قد يكمن في شبكات غسل الأموال الناتجة عن التهريب والمخدرات. وهذا الانفصال بين الواقع الاقتصادي والمظاهر الاجتماعية لا يحدث في فراغ.

رابعًا: الزيارات الغامضة لرموز مافيوية دولية

من غير الطبيعي أن تستقبل البلاد، ولو سرًا، شخصيات معروفة بانتمائها لشبكات الجريمة المنظمة الدولية، دون أن يُفتح تحقيق شفاف أو تُقدَّم توضيحات للرأي العام. هذه الزيارات ليست مجرّد صدفة أو سياحة، بل تعني شيئًا واحدًا: أن موريتانيا باتت تُعتبر من طرف هذه الشبكات منطقة آمنة للعبور والاستقرار، وهو أمر بالغ الخطورة أمنيًا واستراتيجيًا.

خامسًا: الدولة أمام اختبار السيادة والإرادة

إن الصمت الرسمي أو الاكتفاء بالإجراءات الشكلية يرقى إلى التواطؤ غير المباشر. وعلى الدولة أن تبدأ فورًا بحملة قانونية جادة تحت شعار: “من أين لك هذا؟”. تجربة الجزائر في هذا المجال نموذج ناجح: تحقيقات شاملة، سحب ممتلكات مشبوهة، وسجن أصحابها دون مجاملة. الفساد لا يُجفف من منابعه الأمنية فقط، بل من منابعه المالية. فهؤلاء المتورطون هم القلب الفاسد الذي يغذي كل فساد آخر، من التعيينات، إلى الانتخابات، إلى حتى التغلغل في المؤسسات الدينية.

خاتمة: دعوة لإعادة تعريف الدولة

نحن أمام لحظة فاصلة، إما أن تختار الدولة أن تكون دولة سيادة، أو تتحول إلى مجرد ممر صامت لشبكات عالمية تتغذى على ضعفها. إن أي تأخير في فتح هذا الملف بجرأة ومسؤولية سيجعل من موريتانيا الحديقة الخلفية لمافيا القرن الحادي والعشرين

د.محمدعالي الهاشمي