هل من ساحة للشباب في العاصمة؟ محمدفال ولد بلال

جمعة, 03/23/2018 - 08:16

خرجتُ يوما في زيارة لأحد الأصدقاء في مدينة "بطوار". ووجدتُ نفسي في زحمة مرور خانقة، ما أعطاني فرصةَ التّأمُل عن قرب في ملامح ذلك الجزء من العاصمة. بصراحة، تحيّرتُ واندَهَشتُ لما أصاب المنطقة الممتدّة من جنوب سوق العاصمة إلى شارع "اكلنيك"(clinique) من تقاعُس في الهِمّة والطّمُوح وتَراجُع في المقام مقارنةً مع سبعينات القرن الماضي. لقد أُقلِعَتْ شجرة "تكّوسُ" واخْتفَتْ نهائيا، وزال ظِلّها الظّليل. ودُكّت مفتشِيّة الشّغل المجيدة (l'inspection du travail) ودُمِّرَت. واختفتْ السّاحة الواقعة بين المفتشية ومدينة [ر R] وهي التي كانت دوْما تعُجُّ بالنّشاط السّياسي والاجتماعي والمَعْرِفي؛ ساحة نقاش وحِوار وصراع بين مختلف التّيارات والنّظريّات والأفكار. لا تخْلو أبداً من جماعات شبابيّة تبحثُ في الأمور الوطنية والإقليميّة والدولية. ساحةٌ تسِعُ الجَميع وقِبْلة للجميع. يلتقِي فيها اليَسَاري والبعثي والنّاصري والحيّادي والشّاعِر والأديب وبعضُ المارّة والفضوليّين،، ولا مانع من أن يَمُرّ بها بعض القادة الكبار: سميدع، إشَدُّو، با ببكر موسى، بدر الدين، شدّاد، يحظيه، ممّد، التراد، إلخ،، ولا تخطئ العين كتبا مبَعثَرة ومجلاّت وجرائد: هنا "الكُتَيّب الأحمر" ومختارات من أقوال الرّئيس ماوْ تسي تونغ، وهناكـ "في سبيل البعث" و آخر مقالات ميشل عفلق، وجريدة الأهرام، والحريّة، ومجلّة العَرَبي، إلخ... وكلّ الشّعارات لها فُسحَة بدءًا بِشعار "يا عُمّال العالم اتّحدوا" وانتهاءًا بِ"الحرية ولاشتراكيّة والوحدة" مُرُوراً ب"أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة" ! وفي وسط السّاحة، تَتَجَمهَرُ جماعات "تكّوسُ" بيْن من يتَلهّى بظامَتْ ومرْياصْ (بَلوتْ والبُوكْ) وبيْن من يُتابِعُ ما يستجِدّ من فُرَص عمل ويُراقِبُ عن كثب لوحة الإعلانات المثَبّتة على جدران الإدارة. ومن حين لآخر، تُسمَع مشادّات كلاميّة بين مناديب العاطلين وعمّال مفتشيّة الشغل.
وسُبْحان الله العظيم، لقد اختفى هذا كلّه وزال... اختفتْ ساحة "مفتشيّة الشغل" و"شجرة تكّوسُ". واختفَى معها مَعلَمٌ بارزٌ ورمزٌ معرِفِيّ ونضاليّ كبيرٌ لمدينة انواكشوط في حقبة السّبعينات. وتحوّلت المنطقة برمّتها من ساحة شبابيّة وميدان "تحرير" ينبض بالثقافة والفِكر إلى محلاّت تجاريّة لا قلبَ لها ولا فِكر. وتحوّلت من ساحة لطلب الرِّفْق إلى شارعٍ لطلب الرِّزْق !؟ حلّت الأكياس والخَشَنات والقَوارير والصّناديق محلّ الكتُب والجرائد والمجلات والتّنسيق ... وحلّ طلاّب الرّبح محلّ طلاب لقمة العيش (تكّوسُ)... وحلّ صخَبُ السّوق وضجيجه محلّ هُتاف المناضلين وسكينَة القراءة وهمْس النقاش... وحلّت عمارةٌ من طابقيْن يقالُ إنّها مسجدٌ الفَوْگْ الفَوْگْ ودَكاكين التَّحْت التّحْتْ محلّ مفتشيّة الشّغل ... كلّ زَمان بالذي فيه يرشحُ !؟
لهفي عليك أيها الشباب؛ أدري أنّك تَوّاقٌ إلى الثقافة والمعرفة والنضال.. وحاولتَ بشتى الوسائل اختلاق "ساحة تحرير" تلتَقي فيها وتناقش وتَتَحَرّك؛ ولكنّك وجَدتَ كل الطرق أمامك مسدودة بدءا بساحة الجامعة وانتِهاء بساحة التعليم العالي، مرورا بساحة ابْلوكات و"الــقَــهْــوَة التُّــونُــسِــيّــة"! أذكر أنّك، في وقت من الأوقات، تفاءلت خيرا بهذه الأخيرة، أي "القهوة التونسية"، وظنَنتَ أنّها ستصمد لتكون نقطة التقاء، ولكنّها سَقَطت أيضا... والمؤسف في هذا كله أنّك لن يَتَسَنّى لك التّعارُف والنضال والإسهام في صنع التاريخ ما لم يكن لك موطئ قدَم في الجغرافيا.. بمعنى ساحة تواصل ونقاش ونضال،، أو نقطة ماء جامعة يَنهَل منها الشباب العطشان والطامح لقطرة فكر وعمل.. أيّا كانت مشارِبُه ومَواقِفُه السياسيّة!