أربعة أعوام بين دمعتين!

ثلاثاء, 05/23/2017 - 11:55

لا أدري لماذا كلما حزمت أمتعتي، وحملت جسدي معي داخل سيارة الأجرة، شعرت أن روحي تحولت إلى طفلة باكية تقف وراء نافذة السيارة وتحاول أن تمسك بثيابي لتخرجني منها، لا أدري لماذا كلما حاولت قولها: "وداعا يا تامشكط"، شعرت بأن الأقدار تضع يدها الباردة على فمي وتقول لي: اصمت يا خالد!
مثل معظم المحبين الذين ذابت كلماتهم وسط وشوشة النسيم في ثلث الليل الأخير، ولم تسامرهم سوى نجوم الحنين المعلقة في سقف السماء؛ أخرجت ورقة صغيرة من قلبي وكتبت عليها بحبر بلون الرمال للمرة الأخيرة؛ هنا تامشكط والساعة أربعة أعوام إلا أربعة أشهر..
هنا المدينة التي يلقبها محبوها "بتامة الشكر"، وأحيانا يدلعونها ويقولون لها "لعويصمة"، يقول سكان المدينة بأن الموظف الذي ينتقل إلى مدينتهم يذرف دمعتين!
الدمعة الأولى: دمعة الوصول، وهي دمعة مالحة جدا عصارتها الصدود والتذمر، فعندما ينزل الموظف الوافد من السيارة وحقائبه مكسوة بالغبار بعد رحلة شاقة بين منعرجات " أفلة" بصخورها السمراء، وحقولها الخضراء وأريافها البنية الملامح، وعند مشارف صحراء "آوكار" بكثبانها اللينة والمتوثبة، تبدأ نظرات الموظف المسكين تحملق في دور الطين المتناثرة على التل بشكل مبعثر كأنها سقطت فجأة من السماء، وغاصت جذورها وسط الرمال، سيرى الشوارع المتسعة تضيق في قلبه، أما الوجوه القريبة من نظراته ستبدو بعيدة وبلا ملامح، أما إذا كان الموظف ملما بالتاريخ، فأنه سيرى أسرابا من قوافل الملح قادمة من الشمال، وقوافل الذهب والرقيق عائدة من الجنوب وقد أناخت القوافل رحالها في سوق مملكة "أوداغست". سيرى الحاكم الفرنسي يقف قرب الحامية العسكرية على حافة الوادي الأخضر والرياح تحرك شعره وهو يرمق الأفق بمنظاره، الأفق الرابط بين تكانت ولعصابة والحوضين، سيري مجموعة من الكادحين في منفاها تلعب "ظامت"، وولد هيدالة يتوضأ في جوار سيارة "راندرفور" أيام منفاه، سيشعر الموظف بهواء المنافي يتسرب إلى رئته، وسيتقلب في فراشه تلك الليلة وهو تحت ظلال الدمعة الأولى التي كان سقوطها بالنسبة لي، السبت 19 أكتوبر 2013. فعندما صعدت بنا سيارة "الهيلكس" العتيقة هضبة التل المرتفع في حدود العاشرة صباحا، وبدت ملامح المدينة مثل لوحة قديمة رسمت منازلها بلون داكن، وتم تعليقها في سقف السماء بين كثبان رملية لينة ومتوثبة، سرعان ما تكشفت تلك الرمال التي تحجب الأفق، عن كنز أخضر تخفيه وراء ظهرها، إنه واد تامشكط الذي يحتفظ بالماء في قيعانه حتى أواخر ديسمبر من كل عام..
اليوم هو صباح الثلثاء 23 مايو 2017، حيث سقطت الدمعة الثانية وهي ضد الدمعة الأولى، فهذه عصارتها الحب والامتنان والحنين الدائم لهذه الأ ض الطيبة...
هنا طريق تامشكط، وأعتذر إن كانت ثمة أخطاء، فمعظم كلمات التدوينة كتبت من سيارة أجرة ومن فوق طريق تهتز العجلات فوقها، فكما يقول سكان المقاطعة إن عمر المدينة 90 سنة ولا يريدون الآن سوى تعبيد تلك ال 90 كلم...
الساعة أربعة أعوام إلا أربعة أشهر. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

بقلم / خالد ولد الفاظل