ولد الرايس يكتب ؟ الإدارة هي إستشراف المستقبل

أحد, 01/17/2021 - 22:27

بالنسبة لوزارة الداخلية والمواصلات، كان العام 1988 امتدادا للعامين السابقين، إذ كان الاهتمام منصبا على مسألة ما سمي بالزنوج الموريتانيين. ومصطلح "الزنوج الموريتانيين" حديث الاستخدام حينها، ولا يحيل إلى أي واقع أنثروبولوجي، ومع ذلك كان مفيدا لأن له مدلولا سياسيا لتحديد المنتمين لقوى تحرير الأفارقة في موريتانيا (فلام) سواء كانوا من التوكولير أو من الفلان.
وفي وزارة الداخلية والمواصلات، كنت، بصفتي مديرا للصياغة، ولأسباب أخرى، مكلفا بهذا الملف وما يتعلق به.
وخلال الأحداث حصل عندي يقين بأن مصدر صعوبة التعايش بين مجموعتينا الأهليتين هو جارتنا السنغال وبعض جهات المخابرات الغربية.
ولم أكن لوحدي صاحب هذا الفهم، بل إن الرئيس السابق المرحوم المختار ولد داداه في مذكراته يصف بطريقته نفس القناعة بالإشارة إلى الجامعة الفرنسية ونظرية "الزنجية"...
قبل التاسع من ابريل 1989 (تاريخ حادثة سونكو) بثمانية شهور، وفي أحد أيام سبتمبر، رن جرس هاتفي الداخلي في الوزارة وكان مخاطبي هو الوزير جبريل ولد عبد الله، وأمرني بنبرته العنيدة والسلطوية: السيد المدير، انتظرك. وبسرعة أمسكت دفترا وقلما لتسلم تعليماته؛ وهذه عادة جعلها الوزير إجبارية، ولا يمكن لأي موظف أن يدخل مكتبه دون اصطحاب دفتر وقلم.
كان الوزير يقرأ بريدا على مكتبه، ودون أن ينظر إلى أو يرد على تحيتي طرح علي السؤال التالي:
السيد المدير، ما هي المحاكاة؟
وربما لطول الثواني التي تطلبها ردي واصل كلامه:
- تصور أن السنغال وموريتانيا قررا إغلاق حدودهما بعد قطع علاقاتهما الدبلوماسيةو سيكون لهذا الوضع عواقب. ما هي هذه العواقب لكل من البلدين؟ وما هي الحلول التي تقترحها لتدبير هذه الوضعية؟ أنتظر تقريرا مفصلا في 24 ساعة القادمة ولهذا الغرض ستختار من الأطر من تراهم أهلا لمساعدتك. لا تضيعوا الوقت.
إن قصر مدة المقابلة وتعقيد المهمة وتوقيتها المحير (كنا في 1988) كلها أمور لا تروق لي ولكن ليس لي من خيار غير البدء في العمل.
عند عودتي إلى مكتبي بدأت أسماء وملامح الأطر تتزاحم في ذهني وكانوا كثر. فهناك على سبيل المثال ديالو مامدو باتيا وختار ولد الشيخ أحمد ومحمد محمود ولد أحمد وإسلمو ولد عبد القادر وإسلمو ولد محمد فال ومحمد فال ولد عبد اللطيف والحسن ولد مولود ومحمد ولد سيدي محمد...
وفيما أرى لن يكون لمعظم هؤلاء الأطر إي إسهام مفيد. وبالفعل ، عند قدومي إلى الوزارة سنة 1986 فهمت سريعا أن تكوين إداريينا كان عاما ولا يرقى إلى معرفة دقيقة ومؤكدة. فمن أجل حكم السكان المحليين كان المشرفون على التكوين يعتقدون أن الإداري يحتاج فقط إلى بعض المعلومات الأساسية في القانون والاقتصاد والإحصاء وعلم الاجتماع...
وكان كذلك لدى أطر الوزارة ميل إلى البحث عن المناصب القيادية والتشبث بها على حساب التحصيل العلمي.
وربما يكون هذا هو السبب الذي دفع الوزير إلى إلحاقي أنا وعمر فال بالوزارة عن طريق الإعارة. لقد كان فال عمر المعروف بوفائه يتولى مهمة صعبة بوصفه أمينا عاما يمثل القاطرة التي تحرك جهاز الوزارة.
لكن من جد وجد والصبر مفتاح الفرج. بعد مراجعة لائحة الأطر مرارا وتكرارا استقر اختياري على الداه ولد عبد الجليل؛ فلم يكن من سبب لإبعاده. إنه إداري متميز ورزين وذو تكوين سياسي رفيع وحر في أرائه مهما كان الثمن.
وفي قرارة نفسي لم أكن أَكن للمعني الود شخصيا، وكان يقال أنه عضو في التحالف الموريتاني الديمقراطي (AMD).
ومن أجل هذا الاختيار كان لا بد من رأي الوزير. ولذا طلبت مقابلة الوزير وتم ذلك فورا:
- السيد الوزير، قد وقع اختياري في النهاية على الداه ولد عبد الجليل، لكن علي أن أذكركم بأنه عضو في AMD كما يقال وأنا شخصيا لا أثق به. ودون أن يتيح لي فرصة إكمال حديثي قال لي:
- السيد المدير، ثقتك من غيرها لا تهمني وانتماؤه من غيره لـ AMD لا يهمني. همي هو إدارة بلد، ومن
أجل ذلك على استخدام كل الوسائل. قل للداه أن يمر بمكتبي.
بعد ذلك بدقائق دخل علي الداه بمكتبي، وبعد عرض الإطار المرجعي بدأ العمل. وبعد ساعات من العمل المضن والمتواصل كانت الصيغة النهائية للتقرير جاهزة. وأعترف بأن شريكي في العمل فاجأني بصفاء أفكاره وإحاطته بالرهانات والحقائق السنغالية.
وبعد مراجعة التقرير مرات كثيرة والانتهاء من إعداده انتابني شعور بالغبطة وبحسن أداء المهمة. التفت إلى الداه وقلت له:
- السيد الداه، قبل هذا العمل لم تكن لدي أي فكرة عن حقيقة كفاءتك ولم أنظر إليك بود. رد علي متأتئا:
- السيد المدير، أنا كذلك كان لدي نفس الموقف حيالك. هكذا بدأت بيننا صداقة مجردة من أي حسابات أو اعتبار للمصالح.
ومن الأمور الأساسية التي خلص إليها هذا التقرير، والتي يمكنني عرضها اليوم، ما يلي:
- الضرورة الملحة في تحيين الدراسات الخاصة بالقرى الواقعة على ضفتي النهر بحيث تخصص لكل قرية دراسة منفردة عن تاريخ التأسيس وطبيعة السكان والتجهيزات العمومية والأطر المنحدرين من القرية والروابط مع السنغال.
والطابع الاستعجالي لهذه الدراسات هو أن إدارتنا لم يكن لها من مراجع غير خرائط المعهد الوطني الفرنسي للجغرافيا التي تعود إلى 1956.
وهذه الخرائط قديمة جدا ولم يعد من الممكن الاعتماد عليها فيما يخص المعلومات المتعلقة بوتيرة التقري العشوائي على الضفة اليمنى إثر الجفاف الطويل في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي
- في هذا التقرير، تم كذلك بالتفصيل تدوين كل الإجراءات اللازمة في حالة إغلاق الحدود؛ وتم سرد نقاط القوة والضعف بالنسبة للدولتين في هذه الحالة.
وبعد اطلاع الوزير على التقرير وتشاوره مع رئيس الدولة دعا إلى الاجتماع أعضاء لجنة للأزمات؛ وحضر الاجتماع كل من المرحوم أحمد ولد منيه قائد أركان الجيش والمرحوم اعلي ولد محمد فال المدير العام للأمن الوطني والمرحوم محمد الامين ولد انجيان الأمين الدائم للجنة العسكرية والمرحوم ان ولد عبد المالك فائد الدرك الوطني وابراهيم ولد علي انجاي قائد الحرس الوطني.
وفي أعقاب هذا الاجتماع كًلفت بإعداد هذه الدراسة التي يجب أن تشمل ولايات النهر الأربع وأعطيت لي مهلة 4 أشهر لإكمال العمل.
وفي اليوم الموالي توجهت إلى ولاية الترارزه على رأس بعثة تضم المفوض محمد ولد ابراهيم ولد السيد والمرحوم مولود ولد سيدي عبد الله المدير العام للبريد وبا بوكار سولي مدير مشروع الواحات.
وكان الوالي محمد الأمين ولد الداه ينتظرنا في نواحي تيكَنت لنتوجه إلى انجاكَو ونواحيها الأخاذة: ابدن وابدهوس وامبويو وانتيوك.
ولكن قبل مغادرتنا نواكشوط بقليل، كان الوزير قد سلمني ظرفا قائلا إن محتواه قد يساعدني في مهمتي. ولما فتحت الظرف وجدت فيه وثيقتين هامتين: نسخة من الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية تعود إلى العام 1917 بها إحصاء لـ 36 فرية من الزنوج الموريتانيين على الضفة اليمنى وتقرير سري من أحمد ولد محمد طالح وزير الداخلية سنة 1966 قبيل الأحداث التي حصلت في هذا التاريخ به إحصاء لـ 79 قرية من الزنوج الموريتانيين على نفس الضفة اليمنى.
وعند انتهاء مهمتي، كنت قد أحصيت ودرست بمساعدة ولاة الولايات المعنية 206 قرى على الضفة اليمنى سنة 1988.
فما هو تفسير إعادة الاستيطان هذه؟
للإجابة سأعرج على التاريخ القديم والمتأخر لحوض النهر لأقدم، بالاعتماد على الوثائق، جوانب هذه المسألة.
رحم الله جبريل ولد عبد الله.
فاضلي محمد الرايس