تصريح من باب التوضيح… بقلم يوسف نجاح

جمعة, 08/16/2019 - 03:20

تابعت كعادتي و باهتمام بالغ المقال الأخير الوارد على موقع الأستاذ الفذ و المحامي القدير محمد ولد اشدو حول مشيخة أو إمارة الأسرة الكريمة "أهل لمحيميد " التي طالما احتدم النقاش حول المعايير المعتمدة لوصف زعيمها بالشَّيخ أو بالأمير و كل موافق أو معارض يقدم قناعته و يغني على ليلاه....
و قد أثار انتباهي القالب الدراماتيكي و الديباجة الإيحائية اللذين" رافَعَ " بهما رجل القانون المتمرس عن قضية تاريخية في جوهرها لا ترتبط باختصاص القانون بقدر ما تعتمد على تاريخ موريتانيا كما كتبه المؤرخون أو رواه الفنانون و غيرهم من أصحاب الرواية الشفوية المعتمدة و المصدقة بالإجماع بين الشناقطة.
و إذا كان الخلاف لا يفسد للود قضية فيجب التنويه إلى محبتنا الكبيرة لأسرة اهل لمحيميد المجيدة و اعتزازنا بروابط الصداقة و المودة التي تجمعنا بالكثير من أفرادها،
كما أنا لا نضع في الميزان ما يجود به قلم هذا الأستاذ الأغر و نتابع بمتعة كبيرة ما يكتبه على موقعه الشخصي و على المواقع الأخرى حول تراث و تاريخ البظان.
و في مقاله الأخير طالعنا الأستاذ محمد ولد اشدو بمعطيات لا شك أنه مقتنع بها و إلا لما كان أوردها لما نعرفه مسبقا من حرصه على مصداقية قوله و كتاباته.
غير أن واجب الحرص على الأمانة العلمية يلزمنا بالمساهمة في إلقاء الضوء على بعض الحقائق التي ربما تكون ظروف معينة قد حجبتها عن بعض المتتبعين و المهتمين بالتاريخ المحلي.
ورد في المقال المذكور أن أحمد محمود ولد لمحيميد فتح الحوض و استولى على سلطنة أهل هنون امبهدل لكن الواقع أنه لم يفتح الحوض بل كان مقيما فيه منذ مدة عملا باتفاق جوار و مساكنة في إطار هدنة مبرم – ليس مع اولاد امبارك الذين سبق أن هاجر أغلبهم خارجيا نحو أزواد أو داخليا ضمن قبائل مجاورة لأسباب سنذكرها لاحقا– بل مع حلفائهم أولاد بوحمد اهل بوسيف ول أحمد في الحوض.
و جدير بالذكر أن أولاد بوحمد و من حضر معهم من اهل بوسيف ول أحمد (على قلتهم ) و أهل الطالب مختار يوم أكونيت لم يقاوموا مشظوف فقط بل واجهوا جيشا عرمرما لحلف مكون من مشظوف و أولاد الناصر و كنتة و بعض أولاد امبارك المعارضين لإخوتهم و هو نفس الحلف الذي واجهوه يوم عيجون.
و جدير بالذكر أن اكوينيت و عيجون و بلعروك هي المعارك الثلاث الوحيدة التى خاضها مشظوف ضد أولاد امبارك لأن ذلك لم يكن واردا و لا مطروحا زمن هيمنة أولاد امبارك و لم يخوضوها قط لوحدهم بل مؤازرين بغيرهم و فقط في آخر أيام أولاد امبارك الذين أنهكتهم هجمات عمر الفوتي المتكررة و كذلك حروبهم الداخلية التي انطلقت أولى شراراتها منذ 1750 م بين أولاد لغويزي و أهل بهدل.
و لا يفوتنا التذكير أن أولاد بوحمد رغم استمرار تواجدهم بالحوض بعشرة بطون ( مقابل 15 في مالي ) لم يكاتبو أي قبيلة و لم يحدث أن دفعوا المغارم لمشظوف أو غيرهم بينما نعرف أن هؤلاء دفعوا تلك المغارم لغيرهم في تكانت قبل ترحيلهم منها.
إلى ذلك تقول بعض المصادر إن أحمد محمود – بدهائه و رجاحة عقله – جنح للسلم و الصلح مع أولاد بوحمد بعد سماعه بتجهيز جيش جرار من أسكر أهل بهدل و جحافل من أولاد امزوك و أولاد رحمون و لحباشة و غيرهم قادمين من مالي بزعامة السلطان محمد فال ول اعلي الشيخ ول هنون امبهدل.
نفس المصادرتفيد أن أحمد محمود – في سعيه للتهدئة مع أولاد بوحمد و إدراكا منه لقوة شكيمتهم في القتال و تجنبا لانضمامهم لأي هجوم قادم أو محتمل – هو من اجتمع بالكفية ليؤكد له الرغبة في حسن الجوار و العيش المشترك بل ربما عرض عليه أن يمكث أميرا معززا في الحوض و هو ما رفضه الكفية لأسباب خاصة به لكنها معروفة من لدن الجميع.
و من المعلوم أن الكفية ول بوسيف كان يوم أكونيت هو قائد أولاد العالية في الوقت الذي كان أهل بوسيف ول أحمد نحت إمرة أعمر ول عثمان و كان أعمر ول الشين زعيم أولاد بوحمد.
أما اجتماع أحمد محمود بمن سماهما كاتب المقال "الشيخين الجليلين " و هما في واقع الأمر المدعو ولد اشويديني و المدعو ولد الوز اللذين ينتميان لشريحة الصناع الكريمة و الموقرة جدا في المجتمع لمباركي (راجع مدح ول آكرم لسيد أحمد المختار ) فإنما يأتي في نفس سياق النبرة التصالحية الحكيمة لأحمد محمود الذي يعرف أنه انتصر في معركة غير متكافئة استفاد خلالها من تشتت كلمة مناوئيه و تناقضاتهم الداخلية.
و بنفس المودة و التقدير المتبادلين يستمر أهل لمحيميد في احترامهم و اعتبارهم لهنون ول عثمان ول اعمر المتوفي في سبعينات القرن المنصرم و يتمثل ذلك في زيارات التفقد و المجاملة التي كانوا يخصونه بها كما يتجلى في تقديمه أولا للدخول عند الخوبة زمن الاستعمار.
أما ما ورد في المقال من استيلاء أحمد محمود ولد لمحيميد على سلطنة أهل هنون امبهدل فتناقضه حقيقة أن سلطنة أهل بهدل نفسها أنتهت ككيان سياسي منذ معركة مد الله سنة 1841 م بين بطون أولاد امبارك و هي المعركة التي مات فيها خطري ول أعمر [ أخيار السلاطين * الموتى و الحيّين ] المنعوت حرفيا بوصف [ السلطان التالي = المعلوم الغالي ] و مات معه في نفس اليوم أكثر من 60 أميرا من نخبة المجتمع لمباركي.
صحيح أنه قد بقيت و لا تزال في الحوض بعض أسر أهل بهدل لكنها اقلية بينما تعيش الأغلبية اليوم في جمهورية مالي خصوصا في سيكو و دكَـْنة و الملوكي و غيرها من المداشر المالية المتاخمة للحدود الموريتانية و هي المداشر و البلدات التي كان من المفروض أن تنتمي إداريا لموريتانيا لولا تقاعس الحكومات الموريتانية المتعاقبة و خضوعها للإملاءات الخارجية ...
و بالرجوع لمفهوم الأمير عند البظان فمن المعروف أن الإمارة في تراب البيظان كانت محصورة عبر التاريخ في أسر عربية حسانية بتسلسل يرثه الخلف عن السلف لمدة تغطي قرونا متلاحقة و ليست امتيازا يُكتسب فجأة و في رمشة عين على هامش انتصار مفاجئ في معركة خاطفة و ليست حربا نظامية طويلة النفس أو محددة المعالم.
لقد قام أحمد محمود بعدة محاولات سابقة للاستيلاء على الحوض بإيعاز و تسهيل من حكام تكانت الذين كانوا يخططون لصيغة يبعدونه بها شرقا’ غير أن محاولاته فشلت مرارا في معركة بلعروك الآنف ذكرها حيث انهزم أمام أهل الكاشوش من أولاد امبارك بزعامة سيداتي ولد اعلي بلمختار هزيمة خلدها حمادي ول اسويدبوه في ملحمته الرائعة المسماة لعروصية. كما انهزم في عهد السلطان خطري ول أعمر. و ذلك موثق في نصوص ما فتئت أجيال الفنانين تتغنى بها، منها الشور المعروف [ لمّلَّ مشظوف أساغا ] و منها ما يخاطب خطري مباشرة :
مرحبتي مرحبتي بالسلطان
سلطان انجوع اكَيل=دكرش و ام انبيبيل
من عند اماوجيل=حاش امبارك عجلان
مستكَبل بيه ارحيل=يصلح للخاسر كان
إللا كَوكَل و اَفيل=لمكَاسم وإدقدان
مرحبتي مرحبتي بالسلطان
ولّي عن هذا الصور=يساس انجوع الكَور
صلت من الحوظ ادّور= ألا سمعك يزيان
صعت امحاصر بثور= و مشظوف من السيحان
زاكَ و عكَب لبحور=داوي منك جفلان
واخلى منك كامور=ولول و اخلى لكَران
انت طفل الحلة=و انت طفل أزوان
ما تحظر فالملة=و لا تحظر فالخذلان

كما أن الإمارة تفترض أن الأمير يسود في عدة مناطق جغرافية و يُخضع ساكنيها من القبائل لحكمه و يفرض عليهم المغارم و الأتاوات سواء كانوا عربا أو زوايا أو غيرهم و ذلك ما لم يتيسر لقبيلة مشظوف الكريمة لآسباب أهمها دخول المستعمر و استفراده بالسلطة .
و يفيد المؤرخون أن مشظوف – و هذه سنة الحرب و منطقها – دفعوا المغرم لأولاد الناصرأيام الزعيمين الناصريين عثمان ول لحبيب و أحمد ول لحبيب قبل أن يشكلا حلفا لحرب أولاد بوحمد بعد التآكل الداخلي الذي قطّع أوصال النسيج لمباركي.
بهذا المعنى يتضح أن القبيلة الكريمة التي أشار إليها المقال على أنها إمارة لم تكن إمارة بالمعنى المتعارف عليه ( دون أن يقلل ذلك من قيمتها ولا من وضعها الاعتباري المميز ) بل كانت و لا تزال قبيلة وافرة و محترمة ساهمت في نهضة مورتانيا الحديثة بما أنجبته من مثقفين و رجال سياسة و إعلاميين وفقهاء و ضباط و نخب مقتدرة في مختلف المجالات.
و قد كان بوسعها أن تتوسع و "تستعرب" لو توفر لها من الظروف ما توفر لمن سبقها من القبائل الأميرية أي لو لم يقتصر حكمها في الحوض على حوالي 50 سنة فقط و لولا أن الاستعمار دخل على الخط و أخضعها كما أخضع غيرها لحكمه و سيرها كما سيّر غيرها لمصلحته.
و بالمقابل فرغم سطوة المستعمر و هجومه الحضاري على إرث اولاد امبارك في الحوض و سعيه الحثيث لتغيير المبادئ و قيم التعامل الاجتماعي و توزيعه السلاح على من لم يكن يحلم بحمل بندقية أيام أولاد امبارك، فقد استمر ذكر أولاد امبارك على كل لسان و استمر أولاد بوحمد في مجدهم بزعامة أعمر ول الشين و حافظ اهل بوسيف ول أحمد على فخامة اسمهم بزعامة أعمر ول عثمان و احتفظوا بمناطق نفوذ يتجنبها المستعمر و يهابها في أماكن مثل بله و النوارة حتى أطراف جيكني بزعامة الفارس الأديب أحمد ولد اللب ول عثمان و بكل مكوناتهم المتمثلة في أهل حمو و أهل ممو و الرواسيل و اولاد عبد الواحد و اهل بوسيف دون أن يدفعوا المغرم لأحد مهما يكن.
عود على بدء.
علقت بهذا الرد استحضارا لمعلومات متفرقة أخذتها في أوقات متفرقة من مجموعة من المصادر من بينها – بل من أهمها – رواة أحياء يرزقون ينتمون لمنطقة الحوض الشرقي ، و هي معلومات تتوافق في معظمها – رغم بعض الاختلاف في الرواية – مع ما أورده المؤِلفون الذين تناولوا تاريخ الحوضين.
علقت بهذا الرد أيضا لأثيت أني سأظل أتابع كعادتي و باهتمام بالغ كل ما يجود علينا به الأستاذ الفذ و المحامي القدير محمد ولد اشدو حفظه الله.
يوسف نجاح 15/08/2019